مقالات

عقدة الاستعراض عند الشيعة

لا زلت أذكر – ومنذ أكثر من ربع قرن! – شخصاً كان سكيراً يؤذي أهله وجيرانه. ذهب يوماً إلى الحج. وعاد منه، فكنت أراه يفتح الباب الخارجي لداره ثم يقرأ القرآن قرب الباب بصوت مرتفع، يسمعه ويراه الرائح والغادي. أنا أقرأ القرآن؛ إذن أنا تبت، أنا تغيرت، اعلموا ذلك! وتمر مدة – لم تطل كثيراً – حتى عاد إلى عادته القديمة في السكر والإيذاء، وكأنك يا أبا زيد ما غزيت!

في المقالة السابقة التي كتبتها بعنوان: (بعد أربع سنين.. الشيعة يهتفون: اخرج أيها المحتل!) تناولت الموضوع من الناحية السياسية. وقد كتبت فيها أقول: (شاهدنا أمس على شاشات الفضائيات حشود الشيعة من أتباع مقتدى وغيرهم، وهم يتظاهرون في مسيرات صاخبة، تتجه إلى النجف، يرفعون أعلام العراق، ينددون بالمحتل، مطالبين بخروجه. تتخللها لقطات (استعراضية)، من مثل عجوز مقعدة تلتحف بعلم العراق، تدفع كرسيها امرأة تتشح بالسواد. لافتات تحمل شعارات رنانة. وشيخ معمم بلحية وخطها الشيب، وهي تدنو من الستين، في وسط تلك الحشود، أمام المكرفون يصرخ بأعلى صوته، فاتحاً فمه على مصراعيه، وقد ضيق كل نافذة ممكنة في جسمه: اخرج أيها المحتل!).

واليوم أريد أن أقف على الموضوع وقفة نفسية تحليلية، أبحث فيها عن الدوافع النفسية الكامنة وراء هذه التصرفات (الاستعراضية)، والحركات (التمثيلية)، التي ربما ينخدع لها الكثيرون؛ فيظنونها حقيقية، تنبع من أعماق أصحابها، وأن هذه الحشود الشاخصة أمامهم يعنون ما يقولون، ويقصدون ما يفعلون. وربما لا يصدق الكثيرون أن ما يرون يدل تمام الدلالة على عكس ما يتراءى لهم، ويبدو لأنظارهم!

وقبل أن أدخل مباشرة في الموضوع أرى أن أقدم له بمقدمة علمية، تتعلق ببعض المصطلحات والحيل والأمراض النفسية.

 

الحيل النفسية الدفاعية

عندما يتعرض الإنسان إلى مشاكل وأزمات لا يوفق إلى حلها بطرق إيجابية واقعية، يظل في حالة من التوتر الانفعالي الموصول؛ ما يجعله يلجأ إلى أساليب ملتوية سلبية خادعة تخفف عنه بعض ما يكابده من تأزم نفسي، وتقيه مشاعر القلق والعجز والفشل والخجل والرثاء للذات وغيرها من المشاعر التي تنشأ عن إحباط دوافعه. فإذا به يتجاهل المشكلة أو يتناساها أو ينكرها أو يستصغرها أو يموه عليها أو يتنصل منها بإلقاء اللوم على غيره لا على نفسه. كل ذلك للخلاص مما يعانيه من القلق بدلاً من مواجهته. لذا تسمى هذه الأساليب الملتوية بالحيل الدفاعية؛ لأنها تدفع عن الفرد غائلة القلق، وتهبه شيئاً من الراحة الوقتية، وإن تكن راحة وهمية حتى لا يختل توازنه النفسي.

وهذه الأساليب في حدودها المقبولة يلجأ إليها الجميع صغاراً وكباراً، الأسوياء وغير الأسوياء للتخفف من أزماتهم النفسية المستعصية، وفي حل مشكلاتهم اليومية العابرة الطارئة. وهي تعمل غالباً على مستوى لا شعوري، أي إن الفرد لا يكتسبها عن قصد، ولا يستطيع ضبطها وكفها بإرادته([1]). لكن حين تزيد هذه الأساليب عن حدودها المقبولة، وينطبع عليها الفرد تؤدي به إلى الوقوع في الأمراض النفسية أو العقلية، أو تتحول هي إلى مرض في ذاتها. أهم هذه الأساليب أو الحيل النفسية الدفاعية، كالتعويض الزائد والكبت والإسقاط والتماهي والنكوص والعدوان إلخ… يقول د. أحمد عزت راجح: يتضح لنا مما تقدم أن الأمراض النفسية والأمراض العقلية ما هي إلا وسائل شاذة للتخلص من أعباء وأزمات نفسية لا سبيل إلى التخفف منها إلا بالتورط في هذه الأمراض([2]).

من هذه الحيل الدفاعية التي ربما تحولت إلى أمراض:

حيلة التعويض الزائد  Overcompensation

التعويض هو كل محاولة لإخفاء نقص أو التغلب عليه. وكثيراً ما يكون التعويض ستراً للنقص لا التماساً للقوة وإصلاح العيب. وقد يطلق التعويض على كل محاولة للتحرر من الشعور بالنقص؛ لذا فقد يعتبر التبرير والإسقاط وأحلام اليقظة والعدوان على الغير مثلاً صوراً من التعويض لكنه تعويض فاشل.

أما التعويض الزائد فهو مهاجمة النقص بعنف بما يؤدي إلى تضخم مظاهر التعويض، كالشخص الضعيف البنية الذي يمارس الألعاب الرياضية، ولا يقنع أن يصير جسمه عادياً بل يجهد نفسه ليكون من الأقوياء. ويتخذ التعويض الزائد صوراً كثيرة منحرفة منها اصطناع ضروب من التصرف المتكلف السخيف طمعاً في جلب انتباه الآخرين. والتباهي بأعمال عظيمة، أو الخروج على الناس بأفكار مغربة، أو التمشدق في الحديث، أو اللباس غير المحتشم. بل قد يتخذ شكل عدوان وإجرام كي يثبت الفرد لنفسه وللناس أنه غير ضعيف، وأن لديه من القوة ما يتحدى به حتى القانون([3]).

 

حيلة التكوين العكسي Reaction formation

هو اصطناع سلوك أو اتجاه يناقض، ويموه على ما لدى الفرد من أفكار أو رغبات لا شعورية محظورة، أو مكروهة. كاصطناع الفرد مظهر الشجاعة، بينما هو خائف في أعماق نفسه. أو مظهر الرحمة تمويهاً على قسوة دفينة.. وها هي ذي زوجة تخاف من السكاكين خوفاً شاذاً؛ فلا تطيق أن ترى واحدة منها في منزلها، أو على المائدة. وقد دل التحليل النفسي على أن هذا الخوف كان رد فعل لرغبة لا شعورية عندها في أن تقطع رقبة زوجها!

على أنه يجب التمييز بين التكوين العكسي والتصنع المقصود. ففي التصنع يكون الشخص شاعراً بالميل المحظور، أو الدافع البغيض، ويرغب عامداً في إخفائه. أما التكوين العكسي فهو عملية أو سلوك لا شعوري، ينجم عن دوافع محظورة مكبوتة. أي لا يفطن الشخص إلى وجودها، بل ينكرها مخلصاً في إنكاره. وهنا يتجلى خداع الذات([4]).

والآن هل تستطيع الجواب على السؤال التالي: هل ما فعله الشيعة في تلك الاستعراضات النارية يدخل في باب (التكوين العكسي) أم (التصنع المقصود)؟

يعاني الشيعة – ومنذ أربع سنين – معاناة شديدة جراء المفارقة الصارخة التي حصلت بسبب موقفهم من المحتل، وقد تبخرت كل شعاراتهم الثورية، وهتافاتهم الدينية! في الوقت الذي يرون فيه غرماءهم من أهل السنة يصاولون العدو الغازي، ويقاتلونه، ويذيقونه مر الهزيمة والإذلال؛ فيسطرون أروع الملاحم، ويكتبون حروف النور في صفحات المجد، وسفر التاريخ الخالد.

فماذا تراهم يفعلون إزاء هذا الشعور الحاد بالنقص، والنقص المخزي؟! وأي حيلة نفسية يتبعون؛ ليتخلصوا من القلق الجارف، ويتجنبوا مواجهة الذات بالعار الذي يجلل رؤوسهم؟!

لا شيء غير اللجوء إلى مهاجمة ذلك النقص بعنف بما يؤدي إلى تضخم مظاهر التعويض، فكانت تلك المظاهرات الاستعراضية، والحركات البهلوانية، والهتافات الحماسية التي شقوا بها طبلة أذن الدبابات الأمريكية، فولت هاربة مذعورة تطلب جدولة الانسحاب، وإلا فسوف لا تلقى مستقبلاً غير المزيد والمزيد من المظاهرات والحركات والهتافات!

 

المظاهر المبهرجة

في كتابي (التشيع.. عقيدة دينية أم عقد نفسية؟) درست الشخصية الشيعية دراسة نفسية معمقة. وقد وجدت أن هذه الشخصية هي شخصية عليلة، أحصيت من عللها عشرين علة نفسية، انعكست هذه العلل فاتخذت شكل العقائد والطقوس الدينية. من هذه العلل (عقدة الاستعراض). فالشخصية الشيعية – كالشخصية الفارسية تماماً – شخصية استعراضية مظهرية تهتم بالشكل والمظهر اهتماماً كبيراً، وذلك تعويضاً عما تعانيه من عقدة نقص متأصلة في نفسيتها المريضة. تدفع هذه العقدة صاحبها إلى أن يتحول إلى مخلوق يخفي ذاته من أجل التستر على خوائها الداخلي بكل ما يمكن أن يبهر الآخرين ويثير غيرتهم.

إن هذا الخواء يقض مضجع الإنسان الناقص، ويدفع به دفعاً إلى مزيد من الإقبال على المظاهر التي تتستر عليه وتخفيه. تجد ذلك واضحاً في الزي الديني للمراجع والعلماء: العمامة الكبيرة البالغة الكبر، واللحية الطويلة، واللباس الخاص الذي يحرص الواحد منهم حرصاً مبالغاً فيه على عدم ظهوره للناس ولقائه بهم إلا من خلاله. هذا مع الكالوش المتعدد الألوان حسب الدرجة العلمية (الأسود ثم الأحمر ثم الأصفر البرتقالي الشبيه بالشمس أو النار)، والمحابس المتعدة الملونة ذات الفصوص الكبيرة في أصابع كلتا اليدين. وتستطيع بالمقارنة مع الزي الديني السني، وقلة حرص العالم السني على ملازمة لبسه أن ترى الفرق، وتدرك دلالة القصد.

وقد يتخذ الاستعراض مظهراً عكسياً بأن يختفي المرجع فلا يظهر للعامة إلا نادراً من أجل إضفاء هيبة غامضة مضخمة، والإيحاء بالشخصية المبهمة المستعصية على الإدراك والفهوم، تشبهاً بالإله الذي (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار).

كما تجد (الاستعراض) واضحاً في المسيرات والمواكب والحشود، والمسرحيات التي تسمى بـ(التشابيه) اعتماداً على الشخصية الإيحائية لدى (الفارسي) التي انتقلت بالحث والعدوى إلى الشيعي. وتجده أيضاً في الألقاب الفخمة التي يتعوض بها مراجع الشيعة عما يعانون منه من عقدة نقص: (السيد، آية الله العظمى، المرجع الأعلى، ولي أمر المسلمين، زعيم الحوزة… إلخ). وكذلك في أسماء أحزابهم وتنظيماتهم: (المجلس الأعلى، فيلق كذا ، حزب الله ، المجلس الإسلامي الأعلى، الهيئة العليا لكذا وكذا) وهكذا..

هل سمعت بالمثل العراقي.. (مقوار أو مكوار المخنث)؟! و(المكوار) عند العراقيين هو عصا غليظة في طرفها كرة من القير المتصلب. أما المخنث فيزيد من حجم تلك الكرة كثيراً ليوهم الآخرين ويخيفهم، تجنباً للاصطدام معهم، حتى لا يضطر للتعرض إلى ذلك الموقف الذي يرتعب من ذكره، فيتعوض عنه بكبر قيرة (مكواره)!

من هنا جاء كبر (مكوار) المظاهرات الشيعية في ذلك اليوم المشهود، وشدة تنديدهم بالمحتل، وارتفاع أصواتهم المطالبة بـ(خروجه)!

يقول برنارد شو: (الإنسان بحاجة إلى  الإلحاح اللفظي على ما يفتقر إليه). فالمهزومون يفرطون في الحديث عن الانتصارات، والعميان يسرفون في استعمال الأفعال التي تعني الإبصار، ودرجات الألوان والمسافات. والجائع يكثر من ذكر الطعام. كذلك العطشان في حديثه عن الماء. والشيعة يكثرون اليوم من العجيج والضجيج والصراخ بخروج المحتل، وفوراً، وبلا تأخير. (مستعجلين)!

 

الدعاوى الفارغة والتصريحات الرنانة

وتجد (الاستعراض) لدى الشيعة في الدعاوى الرنانة الفارغة من المحتوى لإثارة الانتباه وجلب الإعجاب. وآخر ما طلعوا به علينا من ذلك ما صرح به الرئيس الإيراني المتشدد محمود أحمدي نجاد من دعوته إلى محو دولة إسرائيل، وعرضه نقلها إلى ألمانيا، أو إحدى دول أوربا، وإنكاره لحقيقة المجازر التي تعرض لها اليهود على يد هتلر.

والشيعي لنقصه حريص على إخفاء ذاته، وإظهارها بعكس ما هي عليه. إنه كائن يخفي ذاته من أجل التستر على خوائها الداخلي، ويتمظهر بكل ما من شأنه أن يبهر الآخرين ويثير إعجابهم وغيرتهم. وليس من باب الشرع والتدين حرص الإيراني على إخفاء المرأة بغطاء (التشادور) والبوشية، إنما هو من باب الحرص على التخفي والتستر على الذات. فالكثير من هؤلاء النسوة في الواقع لسن أكثر من مجرد سلعة معروضة لـ(المتعة)، وقد تفرج على جسدها مكشوفاً عارياً العشرات من الرجال من طالبي اللذة والمتاع الرخيص! فأين هذا من هذا ؟!!!.

المسيرات والمظاهرات

وتجد هذه العقدة واضحة في مسيراتهم ومظاهراتهم الشعبية، وهم يستعرضون قوتهم من خلال الدبكات والهوسات النارية، والشعارات والأعلام والصور والوعد والوعيد. من أجل ماذا؟ مثلاً: في يوم 15/1/2005 أظهرت الشاشات الفضائية صورتين: إحداهما في حي الثورة الشيعي في بغداد، والأخرى في الأنبار والموصل السنيتين. وما بين الصورتين من المفارقة ما بين الأرض والسماء!

في (الثورة) مسيرة ضخمة بالدبكات والهوسات والشعارات والأعلام! من أجل ماذا؟ وعلى مَ كل هذا؟! إنهم يطالبون بتوفير النفط والغاز والبنزين والكهرباء! أما في الأنبار الباسلة – ومعها الموصل – فظهرت صورة للمجاهدين – بأبي هم وأمي!!! – ملثمين يحملون قاذفاتهم وأسلحتهم الأخرى، يهاجمون الأمريكان ويحرقون آلياتهم وناقلات جنودهم. ولكن.. بلا هوسات ولا دبكات ولا أعلام ولا ضجيج.

ويخرج مستعرضاً بعض الخائبين، ومن أقذر مدينة في الشرق الأوسط بلا منازع وأكثرها وساخة وعفونة ليسميها بـ(مدينة الصدر المقدسة، وفي رواية: المنورة)!! كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كذبا.

وتتوالى هذه الصور والمشهد يتكرر: مظاهرات رنانة واستعراضات فارغة في المدن الشيعية من أجل توفير فرص عمل، ومطالبة بالتعيين في سلك الشرطة في السماوة، ومظاهرات في الرميثة، وتفاخر فارغ بما فعله الأجداد في ثورة العشرين:

 

اليومِ نْعيدِ الماضي   واحنا احفادَك يا شعلانْ
الشاهدْ هذا المركزْ   هذا اليَمَّكْ موشِ بْعيدْ

ماذا تتصور يريد (أحفاد شعلان)؟ إنهم يطالبون بالتعويض عن الشلب الذي مات بسبب انقطاع الماء !!! .. ووجدت نفسي أردد المقولة الشعبية العراقية: (غَمِّـﭻْ خلفة).

وتذكرت الشاعر فلاح عسكر وهو يقول:

 

احنا مْن اولِ التاريخْ معروفينْ   احنا اهلِ السيوفِ الباشطهْ الزينـهْ
وانتو مْنَ اولِ التاريخْ معروفيـنْ   حياك الزوالي الحَدرْ رِجلينا

وعادت إلى ذاكرتي صورة ذلك الرجل المسكين، الذي كان يقعد كل يوم عند الباب، يستعرض توبته وهو يقرأ القرآن.

نعم! لقد كان يقرأ القرآن. ولكن لم تطل به الأيام كثيراً. وكذلك بأمثاله لن تطول.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى