مقالات

كلهم مقتدى .. لا أستثني أحدا (1)

فـي إحدى خيام المهجرين في الفلوجة التقى مراسل “مفكرة الإسلام” بامرأة من أهل محافظة السماوة (حوالي 280 كم إلى الجنوب من بغداد) تكنى بالحاجة أم عبد العزيز. تركت منزلها مع خمس بنات لها: كبراهن سمية عمرها (22) عاماً. تقول الحاجة: إنها هربت بدينها من السماوة. وإن أشخاصاً من مكتب السيستاني حضروا إلى دارها، وأمهلوها مدة ثلاثة أيام للتفكير في اعتناق مذهب أهل البيت أو الرحيل من المدينة إلى مدن (النواصب). وإنها إذا رفضت فإن (المؤمنين) من فيلق بدر وجيش المهدي سيقومون بواجبهم حيالها وحيال بناتها – على حد تعبير المجرمين المعتدين – وأضافت الحاجة أم عبد العزيز: تركت كل شيء من أجل ديني، وجئت إلى الفلوجة؛ فقد علمت أن أهلها أهل نخوة وطيبة وجهاد([1]).

هذا نموذج للآلاف المؤلفة من أهل السنة، الذين هجرتهم عصابات المجوسية المقنعة، وبفتاوى العلماء، وعلى رأسهم كبيرهم السيستاني. وفروا بدينهم وأعراضهم منهم.

وهكذا – ومن خلال هذا التقرير – ترى أنه لا فرق – في النهاية – بين مقتدى والسيستاني وآل الحكيم وآل الصدر وغيرهم في عداوتهم لأهل السنة. فمكتب السيستاني يهدد الآخرين بذراعه العسكري ” (المؤمنين) من فيلق بدر وجيش المهدي “. نعم! بينهم فروق.. ولكنها داخلية، يسوونها فيما بينهم، ولا تؤثر في علاقاتهم الخارجية حين يواجهون عدوهم الوحيد – أهل السنة. فمهما يكن بينهم من اختلاف وخصومة، فإنهم يتوحدون ضدنا. بل المتابع لهم يجد أنهم أحياناً يتعمدون صناعة هذه الفروق لغايات سياسية، يخدعون بها المغفلين من جماعتنا – وما أكثرهم! – فإن من السياسة أن لا يوضع العنب كله في سلة واحدة. فكلما تلفت سلة حولوا العنب إلى سلة أخرى، على قاعدة (تعدد أدوار ووحدة هدف). ولكبيرهم محمد باقر الصدر كتاب مستقل يجسم هذه القاعدة، بعنوان “أئمة أهل البيت.. تعدد أدوار ووحدة هدف”. فالقوم واعون، ويعرفون بأي نول ينسجون، وعلى أي وتر يعزفون. لكن المشكلة في من يهرفون بما لا يعرفون. يدورون بين السلال، كلما ثقبت سلة أخذوا أختها، وما دروا أن الاعتلال ليس في السلال، وإنما في العنب الذي فيها.

 

لعبة قديمة جديدة

الشيعة قوم يتميزون بقابلية لا تضاهى على رفد الميدان بألوان وأشكال، تبدو في ظاهرها مختلفة، لكنها في الباطن متحدة. فإذا انكشف حال أحدهم، أو احترقت ورقته، جاءوك بآخر يلعن سابقه، ويتبرأ من سابقته. وجماعتنا لـ(طيبتهم) – بل لغفلتهم – لا يدركون اللعبة؛ فيظلون يدورون ويدورون، لا يبرحون أماكنهم.

وهكذا في كل يوم يخرج لنا (وطني) جديد! و(معتدل) غير القديم! والحقيقة أن اللعبة قديمة، وأنه ليس من جديد ولا فرق بين الكشواني والكاشاني – كما يقول الأستاذ الملاح رحمه الله تعالى – الدعوى هي الدعوى، والعمامة والكالوش هما هما. وما تغير إلا الشاخص. ولربما اللاحق ألعن من السابق!

 

هؤلاء هم ( المعتدلون )..!

فيما يلي استعراض سريع لأبرز الأسماء التي انخدع بها أهل السنة، مع شواهد عابرة مما تهيأ تحت اليد، وكان تحت دائرة النظر. تثبت حقيقتهم التي هم عليها، ومدى الوهم الذي يغزو تصوراتنا (الطيبة) عن (اعتدالهم) و(وطنيتهم). وأظن الموضوع يستحق تأليف كتاب مختص، يستقصي الأسماء والأدلة المتعلقة بكل اسم منها. أما أنا فيكفيني في هذا المقام مثل الذي قد كفاني يوم كتبت أول السطور والشواهد عن مقتدى وزمرته، قبل انكشاف حقيقته، في كتاب (إلى متى نخدع؟ إلى متى نُخادع؟) في نيسان 2005. ثم أثبتت الأيام للجميع أن تلك الشواهد كانت كافية لأن تكون أدلة دامغة لو كانوا قليلاً عندها يتوقفون. والذي صدق في الأولى يوم كان الناس لا يريدون التصديق، يصدق في الآخرة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ويحضرني هنا واقعة حقيقية لأحد العارفين من أهل الأحواز العربية السليبة. عند أول مجيء الخميني، والناس قد افتتنوا به، في الأحواز وغيرها، يظنونه المنقذ الذي جاء به القدر في ليالي اليأس وأيام القنوط!

يومها جمع ذلك العارف الحكيم أقاربه وقال لهم: ” يا جماعة! إياكم والانخداع بالخميني وأمثاله! ما هذا الرجل إلا دجال من دجاجلة الفرس، لا علاقة له بالدين “.

وما إن سمع أقاربه كلامه حتى ثاروا في وجهه منكرين مستنكرين. فسكت الرجل ربع قرن. حتى إذا ظهر كل شيء على ما هو عليه، وصار الناس يئنون ويصرخون من ظلم آيات الدجل في قم وطهران. جمع ذلك الرجل أقاربه مرة أخرى وخاطبهم بقوله: ” هل تذكرون ما قلت لكم قبل كذا وكذا من السنين، وماذا كان ردكم علي؟ ” قالوا: “نعم!” قال: ” هل كنت صائباً فيما قلت يومها، وكنتم مخطئين؟ ” قالوا: ” نعم! والله ” قال: ” فالآن أقول لكم حقيقة أخرى: ليس الخميني وزمرته على باطل لفساد تدينهم، وعدم التزامهم، لا، وإنما لفساد دينهم من الأساس. فالتشيع مذهب باطل، والحق مع أهل السنة ” فثار الحاضرون في وجهه كما ثاروا في المرة الأولى! فقال لهم: ” يا جماعة الخير! ارحموني وارحموا أنفسكم، لقد عشت ربع قرن على أمل أن أراكم يوماً من الدهر تصدقون ما قلت لكم. وها قد حقق الله تعالى لي أملي. وجعلني أعيش حتى أرى بعيني أمنيتي. فهل تظنون أن لي عمراً كعمر نوح لأعيش ربع قرن آخر حتى أراكم تصدقون ما قلته لكم الآن؟ أفكلما أخبرتكم بحقيقة أحتاج إلى ربع قرن آخر لتصدقوها؟! استحيوا من أنفسكم، فالذي صدق في تلك يصدق في هذه، وما من داع للتجارب وخسارة الأعمار ” !

وأقول: الاعتبار تجربة من دون تجريب. وقول العارف يضاعف العمر، ويختصر الجهد. والعاقل من اعتبر بغيره، لا بسيره. فلماذا يأبى أكثر الناس إلا أن يمر بجسده على مبضع التشريح؟ ألا ما أكثر العبر! وأقل المعتبرين!

 

محمد مهدي الخالصي (1888-1963م)

من هؤلاء (الوطنيين) (المعتدلين) الشيخ جواد الخالصي. ولا أريد ذكره قبل أبيه. فإن الشجرة تتغذى من جذورها. ومن قرأ الجذور سهل عليه قراءة ما على سطح الأرض.

أما أبوه فمحمد مهدي الخالصي.. الذي خدع الكثير من علماء وعامة أهل السنة – خاصة المجتمع البغدادي الطيب – بدعاواه الرنانة عن التقريب، وتمثيلياته التي كان يجريها بين مرقدي الكاظم وأبي حنيفة، واعتبر – في أواسط القرن الماضي – كبير دعاة التقريب والتلاحم بين أهل السنة والشيعة! بينما هو لا يختلف عن أمثاله من علماء الشيعة. يتظاهر بأمر، ويبطن خلافه. وقد تولى فضحه في حينها الأستاذ الكبير محمود الملاح رحمه الله. ويكفيني أن أنقل عنه عقيدته في (المهدي) لمناسبتها الحديث عن العصابات المنتسبة إليه، وكيف أنه يعتقد فيه العقيدة الوحشية نفسها. فيا لسعادة الوطنيين!

تناول الأستاذ الملاح كتاباً للخالصي هذا اسمه (البرهان الجلي على إيمان زيد بن علي) فذكر أنه جاء في آخر ص54 منه ما يلي: ” والذي يأخذ بثارات أهل البيت، المنتظر محمد بن الحسن العسكري. فيفرح بظهوره عامة المسلمين في شرق الأرض وغربها ” . وعلق الملاح على هذا النص بقوله: “ولم أفهم معنى لهذا الكلام لأن الذين اعتدوا على آل البيت بادوا. والمهدي لا بد أن يلتزم الشريعة. ولم يرد ما يدل على نسخها في عهده. فإن قدر للشريعة الإسلامية أن تنسخ في عهد المهدي، وانتقم من الأولاد بما فعل الأجداد – كما ورد في كتب الملل – فسيكون أهل العراق أوفر نصيباً من أهل الشام ! والحكم لله الملك العلام”([2]).

وما تخوف منه الملاح قبل أكثر من نصف قرن من الزمان بناء على عقيدة الخالصي في المهدي هو الواقع نصاً في العراق اليوم!

وانظر إلى عقيدة هذا (الوطني) (المعتدل) في خيرة الأصحاب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما! إذ يقول: “وان قالوا أن أبا بكر وعمر من أهل بيعة الرضوان الذين نص الله على الرضى عنهم في القرآن: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)، قلنا: لو قال: (لقد رضي الله عن الذين يبايعونك تحت الشجرة) أو (عن الذين بايعوك) لكان في الآية دلالة على الرضا عن كل من بايعه، ولكن لما قال (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك) فلا دلالة فيه على الرضا إلا عمن محض الإيمان”([3]).

وقد ذكر الأستاذ الملاح تهجم الخالصي على الشيخين رضي الله عنهما من خلال كتاب نشره  اسمه (الرحلة المقدسة)، فيه أدعية تقال عندهم في الحج عند الوقوف على قبور بعض المدفونين في البقيع من أهل بيت علي، يتبرأ فيها من الصديق والفاروق مكنياً عنهما برمز (الجبت) و (الطاغوت)، ومخاطباً فاطمة رضي الله عنها بمثل: ” يا مظلومة! يا مكلومة! يا مضطهدة”([4]). !

وأخيراً اقرأ هذا النص الذي لا يخرج إلا من فم (وطني) (عروبي) إلى حد العظم! يقول الخالصي هذا: (لم أذكر الصحابة بخير لأني لا أريد ان أتعرض لعذاب الله وسخطه بمخالفتي كتابه وسنته في مدح من ذمه الكتاب والسنة، والإطراء على من قبح أعماله القرآن المجيد والأحاديث المتواترة عن النبي. وغاية ما كنت أكتبه وأقوله هو ان كتاب الله وسنته لم تذكر الصحابة بخير، ولا تدل على فضل لهم لأنهم صحابة)([5])!.

وألف كتاباً بعنوان “الاعتصام بحبل الله” يدعو فيه إلى وحدة المسلمين، ولكنه في الوقت نفسه يقول فيه: “إن الأئمة الاثني عشر أركان الإيمان ولا يقبل الله الأعمال من العباد الا بولايتهم”([6]). وفي نص آخر يطالب أهل السنة بالاتحاد معه على ذم عائشة أم المؤمنين وخيار الصحابة، ثم يقول: ( فإن أبوا رجعنا الى التقية حذراً من الفرقة وحرصاً على اتحاد الكلمة..)([7]).

هؤلاء هم دعاة الاعتدال والناعقون بشعارات الوحدة الوطنية في أوطاننا المنكوبة بنا قبل غيرنا!!

 

جواد الخالصي

وهذا الشبل من ذاك الأسد. على منواله ينسج، وخطواته يسير. التقيته في رحلة الحج عام 1427. ودار بيننا حوار وجدال ألخصه فيما يلي: قلت له: إذا كنتم جادين في دعواكم لتوحيد الصف ووأد الفتنة، فكونوا صرحاء حتى يثق بكم الجمهور. اتركوا العزف على ربابة ” لا فرق بين السنة والشيعة “. أخرجوا المسألة من الإطار الديني، واحصروها في إطارها السياسي. لقد اختلف الحال عما هو عليه قبل خمسين عاماً. الزمان زمان ثورة المعلومات وشبكة الإنترنت، والحواسيب، والفضائيات، والإذاعات. والكتب والصحف والنشريات، تجدها مبذولة على أرصفة الطرقات! لم يعد شيء خافياً على أحد. الكل يعرف أن هناك دينين، لا مذهبين. والخلاف وصل إلى حد القتل، والقتل المتبادل. كيف ” لا فرق ” وأنتم تؤمنون بـ(الإمامة) أصلاً تكفروننا على أساسه؟ قال: نحن نعتقد أنكم مسلمون. قلت: نعم. ولكن هذا بحسب الظاهر كإسلام المنافقين. أما في الحقيقة فلسنا في اعتقادكم مؤمنين، بل كافرون لا ننجو يوم القيامة، وإنما سندخل النار خالدين مخلدين.

حاول إنكار هذا الكلام مطالباً إياي بإثباتاته من مصادره. فذكرت له بعضها. وأردفت: محمد حسين فضل الله أبرز من يتظاهر بالتقريب، يُسأل عن التعبد بمذاهب أهل السنة؟ فيجيب بعدم قبول العمل بغير المذهب الشيعي. قال: أين ذكر ذلك؟ قلت: في كتابه (مسائل اعتقادية). فقال: لا أعرف هذا. وسأتحقق من الأمر. قلت: والخوئي يستبيح مال الناصب أينما وجد؟ قال: أين؟ قلت: في كتابه (منهاج الصالحين). قال: مال الناصب، وليس السني. قلت: لا فرق عندكم بين الناصب والسني. فهو لقب تلجأون إليه عند الحاجة للتورية. ولكم في إثبات كون الناصب هو السني بلا فرق مؤلفات. قال: مثلاً؟ قلت: كتاب (الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب) للشيخ يوسف البحراني، وهو في مجلدين كبيرين، وقد طبع في إيران قبل سنوات قليلة. فتظاهر بعدم معرفته!

قلت: فما تقول بتكفير الخوئي لكل مخالف، وهو – حسب تعريفه – كل من أنكر (إمامة) ولو واحد من (الأئمة) الاثني عشر؟ قال: أين هذا الذي تقوله عنه؟ قلت: في كتاب (مصباح الفقاهة). فتظاهر – كالعادة – بعدم اطلاعه على ما أقول! وهو تهرب واضح. قلت: فكونوا واضحين حتى نصدقكم. فضحك وهو يقول: كلامك هذا خير ورقة بيد الطائفية.

وهكذا تراهم عند الإحراج يلوذون خلف هذه العبارات الدعائية واللافتات الإعلامية. أفيكون المراوغة والتلاعب بالألفاظ والمواقف قريناً للاعتدال والوطنية؟

وذهلت حين تطرقت إلى الكليني وقوله بالتحريف طبقاً للروايات الصريحة التي رواها في كتابه (الكافي) معتقداً بصحتها. قلت: وهذا يرفع عنه الثقة، لأن اعتقاد التحريف كفر، ومعتقده كافر. فهل أنتم مستعدون لتكفير هؤلاء العلماء؟ فاحتج عليّ قائلاً: ولماذا نكفر من يقول بالتحريف؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- مفكرة الاسلام، 24 أغسطس 2006.

2- الوحدة الإسلامية بين الأخذ والرد، ص 403- 404 ، محمود الملاح.

3- إحياء الشريعة في مذهب الشيعة، 1/86 ، محمد مهدي الخالصي، وذكرها الدكتور ناصر بن عبد الله القفاري في كتابه (أصول مذهب الشيعة الامامية الاثنى عشرية عرض ونقد)، ص701، مقتبساً من المصدر المذكور، 1/63-64. واختلاف الأرقام بسبب اختلاف الطبعات.

4- الوحدة الإسلامية بين الأخذ والرد ، ص272،283..

5- أصول مذهب الشيعة الامامية الاثنى عشرية عرض ونقد ، 492 ، الدكتور ناصر بن عبد الله بن علي القفاري. وذكر القفاري أن هذا النص ورد في رسالة من الخالصي إلى الشيخ محمد بهجة البيطار في تاريخ 26 ربيع الأول سنة 1382هـ ، وأحال النص إلى كتاب البيطار (رسالة الإسلام والصحابة الكرام بين السنة والشيعة) ، ص6 . أما كتاب القفاري فرسالة دكتوراه ، ونصوصها موثقة على أعلى درجات التوثيق . وتستطيع أن تدرك مدى موثوقية الباحث من خلال تجشمه الرحلة – كما جاء في مقدمة كتابه – إلى مصر والعراق وباكستان والكويت والبحرين ، كل ذلك من أجل أن ينقل من المصادر الشيعية مباشرة .

[6]– الاعتصام، ص43، نقلاً عن كتاب أصول مذهب الشيعة، ص492، د. ناصر القفاري.

[7]– الإسلام سبيل السعادة والسلام ، 90 ، نقلاً عن كتاب مسالة التقريب بين أهل السنة والشيعة 2/210 ، الدكتور ناصر بن عبد الله القفاري .

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى