مقالات

دين الثعالب (1)

قبل أيام قليلة تناقلت وسائل الإعلام المحلية والعالمية خبر اجتماع كبير لرؤساء عشائر ورجال دين وشخصيات شيعية في جنوب العراق، وصدور بيان عنه بإدانة التدخل الإيراني الطائفي في العراق. وجاء في الخبر ما يلي: (وقع أكثر من ثلاثمئة ألف عراقي من بينهم ستمئة من زعماء العشائر الشيعية على بيان يتهم إيران بنشر الانفلات الأمني جنوبي العراق.

وقال البيان إن “أكثر الطعنات إيلاماً وأكثر الخناجر تسمماً التي غرزتها إيران في خاصرة الشيعة في العراق هو استغلال المذهب وبشكل مخجل لتحقيق نواياها الشريرة”. كما اتهم البيان إيران باستهداف المصالح الوطنية العليا والبدء في التخطيط لتقسيم العراق وفصل المحافظات الجنوبية عن العراق. ودعا الموقعون – ومن بينهم 14 رجل دين و600 شيخ عشيرة و1250 حقوقياَ ومحامياً و2200 طبيب ومهندس وأستاذ جامعي و25 امرأة – الأمم المتحدة لإرسال وفد للتحقيق فيما وصفوها بالجرائم التي ترتكبها إيران وأتباعها في جنوبي العراق. وأطلع شيوخ العشائر المشاركون في الحملة وكالات الأنباء ومراسلي الصحف العالمية على الأوراق التي احتوت على التوقيعات الأصلية).

الطريف في الخبر ما جاء في تضاعيفه من (رفض الشيوخ الكشف عن أسمائهم خشية تعرضهم للانتقام)!. واستبشرت جهات إعلامية سنية بالخبر. ولربما عده البعض دليلاً إضافياً من أدلة وجود تيار عروبي وطني في أوساط الشيعة.

لسنا ضد النادمين، ولكن..

لست ضد هذا كله. بل نحن مع كل الصاحين من نومهم – وإن طال – ومع كل الراجعين عن غيهم – وإن تمادوا – ومع كل خطوة في الاتجاه الصحيح – وإن تثاقلت – بل نمد أيدينا لانتشال الغارقين، الذين يستغيثون للخلاص مما هم فيه. ولكن..

كل شيء بمقدار. وكل شيء ينبغي أن ينظر إليه على حجمه الذي هو عليه دون زيادة أو نقصان. حتى لا نَظلِم، ولا نُظلَم. فالله تعالى ذم الذين يظلمون أنفسهم في مواضع متعددة من القرآن الكريم كقوله جل وعلا : (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(الروم: من الآية9). والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أُضل، أو أزلّ أو أُزل، أو أظلم أو أُظلم، أو أجهل أو يُجهل علي). وهو من أذكار الخروج من الدار.

والمسؤولية العظيمة التي ينبغي أن نستشعرها، تفرض علينا أن لا نأخذ الأمور على ظاهرها، أو ننساق معها انسياقاً عاطفياً، تكون عاقبته وبالاً وابتئاساً وإحباطاً، في زمن كثرت فيه دوافع اليأس، ودواعي الإحباط. إنما المطلوب أن ننظر إلى ما يحدث نظرة موضوعية، تحسب حسابات الربح والخسارة، وتوازن بين الحسابين: أيهما أكبر؟ وأيهما وهم أو سراب لا يغني من لذع الحقيقة شيئاً؟

مساكين أهل السنة..!

قبل حوالي سنة حضرت مجلساً ضم نخباً متنوعة من العراقيين: منهم علماء دين، ومنهم شيوخ عشائر، ومنهم سياسيون وعسكريون كبار، ومنهم أساتذة جامعات. تطرق البعض منهم إلى أن في الجنوب شيوخ عشائر كثيرين، يعادون إيران، ويتمتعون بالشعور العربي والحس الوطني. فتجاوب البعض الآخر مع هذا النوع من الطرح، وراحوا جميعاً يكيلون المدح والثناء لهؤلاء الشيوخ، وأنهم كثرة في أوساط شيعة الجنوب، ويأتون بقصص وحكايات يرونها تؤيد وجهة نظرهم!

تلفتّ يميناً وشمالاً، وأخذت أنظر إلى نفسي باستغراب! أين ما أراه مما أراه؟! وحين أخذ الحديث مستحقه من الأخذ والرد خاطبت الذي بدأ الموضوع – وكان أحد مشايخ الدين في البصرة – فقلت: لي على ما قلتم تعقيب في سؤالين: الأول: هؤلاء الشيوخ الذين تصفهم بالعروبية والوطنية ماذا فعلوا يوم دخل المحتل البلد؟ هل وقفوا ضده؟ أم صفقوا له مع المصفقين؟ أم ماذا كانوا يصنعون؟ فقال – هو وبعض الحاضرين – : صحيح.. لقد صفقوا للمحتل. قلت: وسؤالي الثاني: هل هؤلاء الذين تقولون عنهم: “يعادون إيران ويكرهون العجم” أذلهم العجم حين سيطروا على البصرة وبقية محافظات الجنوب، وأهانوهم، وضربوا مصالحهم؟ أم أكرموهم وعاملوهم معاملة الند للند؟ قال: بل أذلوهم وداسوا على رؤوسهم، وضايقوهم في أرزاقهم ومصالحهم المادية.

قلت: أيها الإخوة! فأين العروبة والوطنية مما هم فيه؟! هؤلاء قوم تصوروا أن المحتل سيفرش لهم دنياهم بالورود، فلما ضربت مصالحهم، وأذلت معاطسهم، وتبخرت أحلامهم، انطلقت ألسنتهم سخطة للدنيا، كما قال تعالى فيهم وفي أمثالهم: (وَمنْهُم منْ يَلمِزُكَ في الصَّدقاتِ فَإنْ أُعطُواْ مِنهَا رَضُواْ وَإنْ لمْ يُعْطَواْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسخَطُونَ) (التوبة:58).

ليست الوطنية أن تفتح أبواب بلدك، وتنفتح معه للأجنبي المحتل، حتى إذا أهانك وأذلك ناديت بالويل والثبور. وليست العروبية أن تستبشر بالعجمي يطأُ فراشك معززاً مكرماً، تقبل يديه، وتمسح البساط ما بين رجليه، حتى إذا وطئت قدماه رأسك صحت: “عجمي! خذوه!” لا أبداً.

الوطنية أن تصطف مع بلدك في الحالتين، والعروبية أن تمقت الشعوبية والشعوبيين في المرتين. على أنني لا أعمم فأقول: كل هؤلاء على تلك الشاكلة. بل منهم من هو وطني عروبي بحق. وهم كما قال تعالى فيهم وفي أمثالهم: (لَيْسُواْ سَوَاءً) (آل عمران:113). ولكن هنا يتبادر سؤال: كم هو مجموع هؤلاء وهؤلاء، أي الوطنيين الحقيقيين والمزيفين كلاً على بعض؟ لا شك أنهم قليل. وهم –  وإن كثروا – لا تأثير لهم في تغيير مجرى الأحداث؛ فلا ينبغي أن نعول عليهم كثيراً، ونعطي للأمر حجماً أكبر مما هو عليه في الواقع.

الأرقام الواردة في الخبر ..!!!

أول ما يلفت النظر في هذا الخبر، الأرقام الواردة فيه! وأولها عدد التواقيع (300000)  ثلاثمائة ألف توقيع! هذا عدد ضخم ليس من السهل تصديقه. ومن جرب عرف. ولك أن تتخيل نفسك ملزماً بالترويج لأمر يحتاج إلى توقيع (10000) شخص، لا (300000)، عندها ستشعر بضخامة هذا العدد! ومقتدى قبل ثلاث سنوات أراد أن يجمع – للدعاية والتطبيل لا أكثر- مليون توقيع يطالب برحيل الأمريكان. وإلى الآن لم نسمع خبراً عما آل إليه الأمر! رغم أن جهات سنية معتبرة – مثل هيئة علماء المسلمين – كانت معه، ووعدته المساعدة في هذا الموضوع نفسه.

الرقم الآخر عدد رؤساء العشائر وهو (600) ستمائة شيخ عشيرة..! وأنا أسأل: كم هو عدد العشائر في العراق كله؟ وارجعوا إلى كتب الأنساب. فكم هي عشائر الجنوب وحده؟ ربما يقال: المقصود بالعشائر هو الأفخاذ. ونقول: حتى وإن كان هذا هو المقصود فإن العدد يبقى كبيراً، لا سيما إذا أخذنا بنظر الاعتبار عدد العشائر التي لم توقع. ولا شك أنه كبير. ومن استحضر الأجواء السياسية والعسكرية في الجنوب، وسيطرة إيران والأحزاب والتجار والمراجع والمليشيات الموالية لها يدرك صعوبة الاصطفاف ضد إيران. والخبر يشير إلى هذا فقد جاء فيه: (رفض الشيوخ الكشف عن أسمائهم خشية تعرضهم للانتقام)! والشيء نفسه يقال عن عدد الحقوقيين والمحامين (1250)..!!! هل يمكن أن يعقد مؤتمر بهذا الحجم، ثم يمكن التغطية على المشاركين فيه بعدم الكشف عن أسمائهم؟! إذن أين تمكنوا من عقد اجتماعهم؟ هل تحت الأرض؟ أم في جزيرة من جزر المحيط؟ أليس من وسائل إعلام حضرت الاجتماع؟ ثم من يجرؤ على معارضة المالكي ومقتذى هذه المعارضة في علاقتهم وارتباطهم بإيران؟

وعندها تدرك أن الخبر موضوع للدعاية القائمة على المبالغة والتضخيم. فمن يقف وراءه؟ من هو المستفيد؟

ليس المهم الحدث

وهنا لي أن أقول:

1.    ليس المهم الحدث، وإنما تفسير الحدث: كيف؟ ولماذا؟ ما هي أسبابه؟ وما الغاية التي يريد الانتهاء إليها؟

2.  وليس المهم الحدث، إنما استغلال الحدث. فإن كنا جادين فعلاً؛ فلنعمل على استثمار هذه البوادر – بل حتى البوادر أو الأحداث السيئة – لصالحنا، بشرط أن لا تكون خسارتنا أكثر من ربحنا. لا أن نقف موقف المتفرج، أو المزمر بالسلب أو الإيجاب دون أن يدري عن حقيقة الأمر شيئاً. وهو المطلوب بالنسبة للخصم ابتداءً أو مآلاً.

وتأسيساً على ما سبق، وعلى فرض صحة أصل الخبر، أقول:

مؤتمرات متلاحقة من العيار نفسه..؟!

سين

بعد الخبر بيوم أو يومين تتابعت اجتماعات متلاحقة من الجنس نفسه، تحت مظلة المصالحة، ونبذ الطائفية، والتآخي بين السنة والشيعة. مؤتمر للعشائر يعقده الشيخ أحمد عبد الغفور في جامع أم القرى. جماعة علماء العراق التابعة للدكتور عبد اللطيف الهميم تقيم مؤتمراً في النجف بعده بيوم أو يومين. وآخرها اليوم (28/11) وفد صدري من أهالي حي الثورة (المسمى بمدينة الصدر) يزور الأستاذ طارق الهاشمي في مكتبه، ويدعوه إلى تبني مشروع الوحدة والمصالحة، وأنهم اختاروه ممثلاً لهم في هذا المشروع، طالبين منه أن يضع يده بيد مقتذى في سبيل هذا الهدف!!! ولا ندري ما الذي يعقد من اجتماع في الغد القريب؟! أكل هذا يحصل من دون اتفاق، أو تخطيط؟! فمن وراءه؟ ومن المستفيد؟ وماذا يراد لنا؟ وبنا؟

ما خسروه في القتال يريدون سلبه بالكلام

يقول الانجليز: “ما نخسره في ميدان الحرب، نكسبه على طاولة المفاوضات”. فهل الشيعة اليوم يطبقون المبدأ نفسه؟ فبعد أن استعملوا جل أوراقهم في القتل والتخريب والتدمير، ومحاولة تنفيذ مشروعهم في جعل جنوب العراق ووسطه، والعاصمة بغداد منطقة صافية للشيعة، بتصفية أهل السنة، وإرعابهم، وتهجيرهم. ثم تبين لهم بالملموس أن تحقيق هذا الهدف ليس بالسهل. لا سيما أن قواعد اللعبة تغيرت كثيراً، ومصالح (الإخوة الأعداء) بدأت بالتضارب. إذن المرحلة تقتضي مد اليد للآخر والجلوس معه على طاولة مفاوضات (الأخوة، والتصالح، ونبذ الطائفية، والحفاظ على وحدة البلد، وتعليق كل الأخطاء على شماعة إيران).

المشكلة أن الكثير من أهل السنة يسارع في تصديق مثل هذه الخزعبلات، مدفوعاً بشتى الأسباب. ولا يتردد في نسبة جرائم الشيعة التي ملأت الأرض حتى ضجت أطرافها، إلى جهات خارجية كالموساد وإيران، وكأن منفذيها من العراقيين مجرد دمى تحرك بخيوط خفية، لا إرادة لهم في تنفيذها قط!

سمعت يوماً – وأنا غلام يافع – رجلاً يقول لصاحبه: ندعو فلاناً، ثم نشبعه ضرباً وإهانة، ولو بالوسائد. ثم نختم ذلك بالضحك آخر الأمر، ونقول له: كنا نمزح معك. فنهينه أمام الحضور، وفي الوقت نفسه نتخلص من تبعة الفعل! هذا ما يريد الشيعة فعله بنا اليوم! أحلوا للمحتل بلادنا، وذبحوا شبابنا، وقتلوا علماءنا، وشردوا أهلنا، وحرقوا مساجدنا، ومزقوا مصحفنا، ودمروا بلدنا. ثم ها هم اليوم يضحكون علينا باسم الإخوة والتصالح!

عيب علينا والله نلدغ من الجحر نفسه في كل عام مرة أو مرتين، ثم لا نتوب ولا نكون من المعتبرين!

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى