مقالات

بمناسبة الذكرى الخامسة لاحتلال بغداد (2)

خمس سنين من الهزات والمراجعات

في وسط محيط المعاناة، والخذلان من القريب والبعيد، والتفكير السطحي، والحالة الغثائية التي عليها المؤسسة الدينية: الرسمية والدعوية، كتبت سنة (2001) في كتابي (لا بد من لعن الظلام) – الذي أنجزته في مطلع ربيع (2002) – أقول:

لقد جاء الإسلام ليصنع مجتمعاً يحمل (قضية) أي له رسالة، لا مجتمعاً عابداً عبودية مجردة تعزله عن وجود رسالة له في الحياة. فصنع أتباعاً كل واحد منهم يشعر أنه صاحب (قضية). أما العبادة فكانت وقود (القضية)، وزادها الذي لا بد منه لمواصلة المسير. وهي بمعناها الأشمل تتضمن (القضية)؛ لأن العبادة التي أرادها الإسلام ذروة سنامها الجهاد، والجهاد لا يكون بلا قضية. والمجتمع الفاقد لـ(القضية) فاقد للجهاد مهما بدا مسلماً عابداً ملتزماً بشرع الله. وحين تتبنى الدعوات العبادة بمعناها الضيق – وليس (القضية) – تكون قد أخطأت خطأً فادحاً وأسلمت للغير زمام الأمور. يقول تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين) (التوبة:19).

لا ولاية ولا نصرة لمسلم لا ينصر ( قضيتك )

فالمجتمع الإسلامي مجتمع جهاد لا مجتمع عبادة، بالمعنى المحدود للعبادة حين تخلو من مضامين (القضية)؛ ولذلك قطع الله تعالى الولاية والنصرة الكاملة بين المسلمين الذين أرادوا الإسلام مجرد عبادة دون تحمل تكاليف (القضية) فلم يهاجروا، وبين المهاجرين والأنصار أصحاب (القضية) فقال: (إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال:72). وكانت الهجرة إلى المدينة يومها تمثل الشراكة في هم (القضية).

كافر ينصر (القضية) خير لنا من مسلم يعيش لنفسه

وفي هذه الآية مفارقة عجيبة هي أنه إذا حصل قتال بين مؤمنين لا ينصرون (قضيتك) وبين كافرين بينهم وبينك ميثاق وعهد، فلا يحل الوقوف مع المؤمنين ضد هؤلاء الكافرين المرتبطين مع المؤمنين الصادقين بميثاق يلزم نصرة بعضهم بعضاً؛ لأن هذا الميثاق يجعل الكافر حاملاً لـ(القضية) التي أنت بصددها بصورة أو بأخرى. فالقرآن من هذه الناحية يعطي قيمة لمن ينصر (القضية)، وإن كان كافراً، ويفضله على من تنصل عن حملها ونكل عن تكاليفها، وإن كان مؤمناً!

بل إن فتح مكة – الحدث السياسي الأعظم في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم – كان سببه الوفاء بميثاق النصرة المعقود بينه وبين قبيلة خزاعة الكافرة التي اعتدت عليها قريش فنقضت ميثاق الهدنة.

مقياس الولاء ( النصرة ) الشراكة في ( القضية ) .. وليس الدين المجرد

من هذا وغيره – وهو كثير – يتضح لك الخطأ الفادح الذي يقع فيه من جعل همه ودعوته العبادة وليس (القضية). والخطأ الأفدح الذي يقع فيه حامل (القضية) حين يصرف جهده في نصرة أقوام لا يشاركونه هم قضيته، ولا يحملون عنه بعض وزرها. متصوراً أن اشتراكهم معه في الدين يفرض عليه هذه النصرة، فيحمل هماً فوق هم، ويتحمل وزراً فوق وزر! مع أن الله تعالى يقول: (وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

وهؤلاء قسمان: قسم لا قضية له، ولا شأن له بقضيتك. وقسم مشغول بـ(قضيته)، مهما كانت هذه القضية مشروعة مقدسة.

وجوب نصرة المسلمين بعضهم بعضاً

يقول تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) (التوبة:71). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً). وهذا يوجب على المسلمين نصرة بعضهم بعضاً، لا سيما المظلوم منهم. وقد كنا – ولا زلنا – ننصر إخواننا المظلومين في فلسطين وغيرها بما نستطيعه من فعل قلب ويد ولسان. والذي يراجع المقالة في جزئها الأول يجدني – وفي وسط الكارثة والقصف الوحشي والدمار والتشرد الذي كنا نواجهه، وفي يوم (4/4/2003) – قد كتبت أقول: (هل ماتت ضمائر العالم أمام هذه الكوارث التي يصنعها طغاة الأرض في ربوع العراق وفلسطين وأفغانستان والشيشان)؟! فلم أفرد العراق بالذكر رغم الظرف الذي كان يسحق على عظامنا ونفوسنا!

وإذا كان واجباً علي أن أنصر أخي في فلسطين، فهو – بالمقابل – يجب عليه أن ينصرني ولو بلسانه. فالواجب متبادل بيننا. وليس من أحد خارج عن القانون الإلهي، سيما من كان يدعي أنه من (الإسلاميين) الذين ارتضوا دين الله منهجاً وحكماً.

صدمة ولدت انتباهاً لحقيقة عجيبة…!

بعد مرور فترة على الاحتلال بدأت أنتبه، وبسبب الصدمات المستمرة، وتطلعنا المستمر إلى من ينصرنا من إخواننا، ومن هو معنا؟ ومن هو ضدنا؟ ومن هو ساكت على التل؟ وشيئاً فشيئاً، خصوصاً بعد زيارة خالد مشعل لإيران في آخر سنة (2005)، وتصريحه من هناك بوقوفه ضد من يعتدي على إيران، وتقبيله يد السفاح علي خامنئي – بدأت أنتبه إلى أن إخواننا في فلسطين – حتى الخصوص منهم – لا يعنيهم أمرنا شيئاً.

790691614 وكتبت يومها إليه أقول: (يا أخ خالد! كما أن (إسرائيل) تحتل فلسطين، فكذلك إيران تحتل العراق. وكما أنكم – ونحن معكم – تعادون (إسرائيل) لاحتلالها فلسطين، فنحن نعادي إيران، ومن حقنا عليكم أن تعادوها معنا؛ لأنها تحتل – وتعين على احتلال – العراق. وكما أنكم لا ترضون – ولا نحن نرضى – أن يزور أحد منا (إسرائيل) ليصرح منها أن من اعتدى عليها فنحن له بالمرصاد، كذلك لا نرضى أن تزور أنت إيران عدونا الأول – نحن العراقيين – لتصرح منها بذلك التصريح الذي أزعجنا وأحبطنا، وصرنا بسببه نحس كأن قضيتنا ليست واحدة، وآلامنا ليست مشتركة، ولسنا كالجسد الواحد الذي إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

هل الإسلام يمنح صاحبه صك الاعتداء على الآخرين ؟!!!!!!!!!

ويقول ساذج أو متساذج – وما أكثرهم! – “إن إيران بلد مسلم، بينما إسرائيل يهود”. وأنا لا أدري ما علاقة ديانة المعتدي برد عدوانه، ونصرة المعتدى عليه؟! فلو كان الذي احتل فلسطين مسلمين من الهند أو السعودية أو إيران، فشردوا أهلها وفعلوا بهم ما فعلت يهود، هل يصلح هذا مبرراً للسكوت عن عدوانهم؛ بحجة أنهم مسلمون؟!!!!! فإيران فعلت بأهل العراق ما هو شر وأفظع مما تفعله يهود بأهل فلسطين! ثم نكتشف أن السكوت بسبب أن المجرم المعتدي يدفع لأخيك – الذي تنتظر نصرته ولو بالكلام – ما يسكته عن جريمته تجاهك! فهل إذا قبضتُ ثمناً من يهود بسبب أن الآخرين تخلوا عن دعمي ونصرتي – وهو الواقع الذي نعانيه في العراق – يصح أن أسكت عما يفعله يهود من جرائم بإخواني أهل فلسطين؟! ولا أكتفي بهذا حتى أستهتر قائلاً: “إنني واليهود جبهة واحدة”. وإذا سئلت عن السر؟ استهترت أكثر، لأجيب السائل بلا خجل ولا قطرة حياء: “إن العرب تخلوا عني، وإسرائيل تدعمني”!

أليس هذا ما يفعله من يسير في ركب إيران سواء بسواء؟!

ألا إن القوادة قوادة، سواء كان الفاعل إيرانياً أم يهودياً. والديوث يلعنه الله. ويلعن الفاعل والمفعول به. والساكت عن الحق شيطان أخرس.

الشيء نفسه، والموقف نفسه يقفه رموز القاعدة، والإخوان المسلمون ومن تأثر بهم من (الإسلاميين) في مصر وغيرها. علاقتهم بإيران مريبة. ويناصرون السفاح حسن نصر الله، الذي يذبحنا في العراق، ويسكتون عن جرائم إيران! مع أن أهل العراق مطبقون على أن إيران تمارس دوراً تخريبياً في العراق، أشد من دور أمريكا! والمخفف منهم يقول: هي عدو كأمريكا. فلماذا هذا السكوت عن جرائم إيران؟ أمن الدين؟! أم السياسة؟! أم من (الاقتصاد)؟!

إيران عدونا وليس منا من اصطف معها

وتأسيساً على ما سبق من القواعد والحقائق القرآنية والنبوية والواقعية أقول: من اصطف مع إيران، وسكت عما تفعله بنا نحن أهل العراق من جرائم، وخادع الأمة بصرف نظرها عن مشروعها الإمبراطوري الخطير فليس منا، ولسنا منه. سواء كان من (الإخوان المسلمين)، أم (حماس)، أم (الجهاد)، أم القاعدة، أم.. كائناً من كان، مهما كان: (إسلامياً)، أم علمانياً، أم في أي واد من الأودية هلك، أو غاراً من الغيران سلك وانسلك. لا نحن منه، ولا هو منا، ولا نعرفه ولا يعرفنا. فليست دماء العراقيين ماء، ولا تضحياتهم هباء. ولسنا في حاجة لأحد، بل غيرنا أحوج إلينا منا إليه. ومن لم يذرف دمعة في يوم مصيبتي، فلست في حاجة لأن ألطم في سرادق عزائه، أو أرقص في يوم عرسه.

من وقف معنا وقفنا معه. ومن تخلى عنا تخلينا عنه، ولو كان مخلوقاً من مسك أذفر، وذهب أصفر.

فإن تدنُ مني تدنُ منكَ مودتي وإن تنأَ عني تلقَني عنكَ نائيا
كلانا غني عن أخيهِ حياتَهُ وإن نحنُ متنا أشدَّ تنائيا

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى