مقالات

فلا نامت أعين الخطباء (1)

في خطبة الجمعة يوم (18/7/2008)، وعلى قناة (بغداد) الفضائية، افتتح الأستاذ هاشم الطائي([1]) خطبته بقوله: (وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، وأهل بيت نبيك الطاهرين، وتابعيهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين). وهذا على غير المألوف في ديباجة الخطب عند أهل السنة في جميع عهودهم السابقة.

منذ حوالي أربعين سنة وأنا أصلي الجمعة. وقد صليتها في مختلف محافظات العراق، وخارج العراق، فأسمع الخطيب يقول: “وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن بقية الصحابة والقرابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين”. أو يقول: “وآله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين”… وأمثالها من العبارات المشابهة في اللفظ والمعنى. لم يخالف في ذلك خطيب قط.

نعم بدأنا من حوالي (15) عاماً نسمع من يقول: “آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغر الميامين”، وهي عبارة قريبة من: “آله وصحبه”، وإن كانت أقرب منها إلى التشيع، من حيث زيادة التصريح بتخصيص (الآل) بالطهر في مقابل الصحابة، وقد صار معناه عرفاً محصوراً بأقارب النبي صلى الله عليه وسلم. وتخصيص (الآل) بالطهر – إذا تركنا التأويل والترقيع – مفهوم شيعي. ولكن قائل هذا – على الأقل – لم يكن يهمل ذكر الصحابة قط كما فعل الخطيب السابق حين اقتصر بالذكر على (أهل البيت) وخصهم بالطهر.

الحروب وتطور الأمم والشعوب

أن هذا يقودني إلى بحث معمق ربما ابتعدت له قليلاً، ولكن لأقترب كثيراً من فهم الموضوع، ومعرفة جذوره، وأسبابه ودواعيه.

الناظر في التأريخ البشري يجد أن التحولات الكبرى في حياة الأُمم لا تحدث عادة إلا بعد صدمات كبيرة تتعرض لها شعوبها، كالكوارث والحروب. تمثل هذه الصدمات لحظات الطلق أو الولادة المؤلمة، التي يخرج بعدها الوليد إلى النور. وليس من شرط الولادة أن يخرج الوليد سليماً معافىً دائماً، إذ ربما خرج مشوهاً. فالتحولات قد تكون تقهقراً، وقد تكون تقدماً؛ بحسب حال الشعب أو الأمة التي جرت عليها التجربة. ويمكن أن نشبه الحال بالاختبار أو الامتحان، الذي يتعرض له الطالب في نهاية كل مرحلة، ليكون بعده القفز إلى الأمام، أو المراوحة في المكان، أو التقهقر والطرد من الساحة تماماً.

حينما يكون الشعب بمستوى التحدي، ويملك من الوعي وعناصر المقاومة ما يوازي خطورة المهمة التي لا بد له من أدائها يكون التحول بعد الصدمة – مهما كانت كبيرة – تقدماً إلى الأمام، وقوة جديدة تضاف، ورقياً في سلم العلم والمدنية والحضارة. أما إذا كان التحدي أكبر من قدرة الشعب، أو كان الشعب ضعيفاً في ذاته ، ليس بمستوى التحدي كـان التحول تقهقراً وتخلفاً ومزيداً من الضعف والتردي في مهاوي الحياة.

ليكن معلوماً أنه ليس من الضرورة أن يكون الشعب – أفراداً أو جماعات – كله على مستوى واحد في عناصر القوة أو الضعف. إنما النتيجة لحاصل الجمع النهائي. لا يضير الأمة القوية في نهاية المطاف أن يكون في قافلتها بعض الضعفاء، فالقدرة على الترميم تخفي الأثر العائب، كما لا يفيد الأمة الضعيفة وجود بعض الأقوياء، الذين يقودهم حظهم البائس أن يكونوا أفراداً أشقياء في أمة ضعيفة.

جذور الضعف

وإذا رحنا نبحث في جذور الضعف، وكيف يتدرج في نفوس الضعفاء وآفاقهم، لا يفوتنا ما قاله العلامة ابن خلدون في هذا الشأن: (المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده. والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه: إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب… ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه: في اتخاذها وأشكالها. بل وفي سائر أحواله).

إن أول درجات الهزيمة التي يخطوها المغلوب تجاه الغالب تبدأ بالبحث عن نقاط التقاء ووسائل قربى وعلامات شبه بين فكره وفكر الغالب. ثم تستمر سلسلة التداعيات والانهيارات التي بدأت من هذه النقطة. يقول أحد المفكرين المحدثين: “عندما تنتصر حضارة على حضارة تتولد عند المغلوب إحدى قابليتين: قابلية الانتماء للمنتصر أو المتغلب كما يقول ابن خلدون. أو تتولد لديه حالات الرفض السلبي. فحالة قابلية الانتماء للمتغلب تبدأ بفكر (المقاربات) حيث تنـزع الأمة المغلوبة إلى البحث عن صلات قربى مع فكر الغالب. فتُقارَب الديمقراطية الغربية بالشورى الإسلامية مثلاً، متناسين بذلك فوارق النموذج المعرفي والحضاري وآثارها في الفرق بين الديموقراطية ذات الجذر الفردي الليبرالي والقائمة على تقنين الصراع، وبين الشورى الإسلامية القائمة على وحدة الجماعة ونبذ الصراع”([2]).

إن هذا التشخيص يضع يدنا على بداية الضعف، ومن أي نقطة تكون؟ إن أسهل خطوة وأقربها مودة، وأخفاها وأسترها عيباً، وأكثرها مرونة أو قابلية لأن تمنح المغلوب القدرة على مجادلة المعترضين، بل اتهامهم، وفي الوقت نفسه تلبي عنده رغبة الانبطاح للغالب، وإشعاره أنه يريد التقرب منه، وأنه ليس في حقيقته من أولئك المخالفين له- هي التشبه بألفاظ ومصطلحات الغالب، تلك التي من الممكن أن يجد لها لفظاً مقارباً في شكله أو مضمونه عند طائفته التي يشعر بمغلوبيتها وضعفها. ومن هذا الباب استعمال مصطلح “الديمقراطية” تلبية لكل الدواعي السالفة الذكر، ومقاربتها بمبدأ الشورى، كما مر بنا في الشاهد السابق. لماذا لا يكون العكس في هذا العصر فيتقرب الآخر إلينا فيستعمل مصطلح (الشورى) بدلاً من أن نتقرب نحن إليه فنستعمل مصطلحاته؟ نعم كان هذا حاصلاً يوم كانت حضارتنا هي الغالبة وهم المغلوبون. وقد ذكر القرآن الكريم هذه الحالة عن أصناف من أهل الباطل، حين تشعر بالضعف، تبدأ بالتخفي وراء الألفاظ، ودعاوى الانتماء الكاذب، فقال مثلاً: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (آل عمران:71). لا يجرؤون على الجهر بالباطل فيسوقونه عن طريق أسماء ومصطلحات الحق، ينتحلونها لفظاً مع محاولة حشيها بمضامين تختلف قليلاً أو كثيراً حسب الحال من الضعف والقوة. وقال: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ) (آل عمران:78). وقال: (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) (المائدة:41).

العلة إذن هي الغلب، ولمن يكون.

والمسألة نفسية، وليست عقلية علمية. هذا هو التشخيص.

وللعلة نفسها من هنا يبدأ أهل الحق بالتردي في مهاوي التقرب إلى أهل الباطل، والتشبه بهم، حين يضعفون ويصابون بالهزيمة النفسية. بينما جاء التوجيه النبوي العظيم جازماً في الأمر بمخالفتهم، والنهي عن التشبه بهم فيما هو من خصوصياتهم: (خالفوا اليهود والنصارى) (خالفوا المجوس) (خالفوا المشركين). والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) (آل عمران:156). ليجعل بين أهل الحق وبين أهل الباطل فاصلاً يحمي حمى أهل الحق، ويحفظ لهم شعورهم بالتميز والعزة والعلو؛ فلا يضعفون ويعطون الدنية في دينهم، ويساومون على خصائصهم وثوابتهم: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139).

المهزومون

عانينا من هذا الصنف المهزوم نفسياً كثيراً قبل الاحتلال. حتى إن البعض منهم – حين تتلاشى الرقابة الربانية في داخلهم – ربما قادهم ضعفهم إلى أن يكون مثلهم كمثل أولئك، يلبسون الحق بالباطل، يكذبون على الله، وعلى الناس وعلى أنفسهم، سماعون لكل معنى شاذ وحديث ضعيف وفكرة ذليلة يتخيلونها مما يمنحهم قرباً من الآخرين، يحرفون الكلم عن مواضعه، ويلوون ألسنتهم بألفاظ وعبارات، هي أولى ما يكون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يرى بها بأسا يهوي بها في النار سبعين خريفا)([3]). يتخيلون الشيعة غولاً ينتزع قلوبهم، وشبحاً يغتال أرواحهم؛ فهم لذلك دائمو البحث عما يقربهم إليهم، ويرضيهم عنهم؛ علهم يشعرون براحة الأمان، ويجدون لذة الاطمئنان. حتى إذا وقع الاحتلال، وحصل الاضطراب والاختلال سلطهم الله عليهم فكانوا أول ضحاياهم. والشواهد على هذا كثيرة.

توصلت أخيراً إلى أن الهزيمة النفسية مرض، بل عقدة نفسية معضل داؤها، صعب شفاؤها. تكمن في عقل المريض الباطن فتحكم تصرفاته، دون أن يشعر بها. وتتسلل بخفة وخفية إلى الخارج على شكل ألفاظ وأفعال مغلفة بالحكمة والهدوء والرزانة، وكل وصف يجمِّلها في عينه، ويحسنها في نظر الآخرين. وفي المقابل تجد هذا الصنف المنخور بالهزيمة حد العصعص يتطير من رؤية الأقوياء الثابتين؛ لا لشيء إلا لأن رؤيتهم تضعه أمام نفسه وجهاً لوجه، فيراها كما هي عليه صغيرة قميئة ترتجف في عز الظهيرة. يصف تصرفاتهم وأقوالهم بكل ما يشينها في نظره، ويكرهها إلى نفوس الآخرين، من الشدة والتهور والتطرف وعدم التفاهم مع الغير، وتنفيره والإساءة إليه.

___________________________________________________________________________________________

  1. – أحد أعضاء (الحزب الإسلامي العراقي)، ومرشح جبهة التوافق في مجلس النواب عن الموصل.
  2. – أبعاد غائبة عن فكر وممارسات الحركات الإسلامية المعاصرة ، ص17، الدكتور طه جابر العلواني.
  3. – أخرجه الإمام مالك وأصحاب السنن ، وصححه الترمذي وابن حبان وغيرهما.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى