مقالات

بين زاوية المسجد وطاولة المجلس (عقدة الماتيس) ؟ أم ماذا ؟

يظهر أن بين زاوية المسجد أو منبر الخطابة وبين طاولة المجلس النيابي أو كرسي السياسة مسافةً تكفي وزيادة لأن ينسى المتحدث تماماً ما قاله هناك، لينقضه هنا!

لم أكن أدرك عمق كلمات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه القيم (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) إلى هذه الدرجة وهو يتحدث عن تأثير الملبس والهدي الظاهر في نفس صاحبه! لقد نبه عن الفرق في الحالة النفسية التي عليها لابس ثياب الجندي عن لابس ثياب الواعظ: إن الأول تتقمصه حالة من الشعور بالقوة والزهو، بينما الثاني يشعر بالهدوء والسكينة، ولو كان هو الشخص نفسه. أما أن يتحدث الرجل من فوق المنبر وهو في ملابس الوعظ حديثاً مثالياً، وبحماسة منقطعة النظير وهو يلقي بتوجيهاته وحممه على كل من يخالف شرع الله، ولا يطبق حكمه، ولا يقول كلمة الحق خشية لوم اللائمين وسوط الحاكمين، ثم ما إن يخلع تلك الملابس، ويرتدي القميص والبنطرون، ويتقلد ربطة حول عنقه، ويحسر كاشفاً عن رأسه، ويجلس على الطاولة المعهودة حتى ينسى ذلك كله، ليبدأ فصلاً من المجاملة وتعطيل نصوص الشرع باسم المصلحة، وكتمان الحق باسم الضرورة، وقول الباطل بهذه الحجة وذلك المسوغ – فهذا ما لم أكن في يوم من الأيام أتصوره ناتجاً عن الفرق في الزي والملبس، أو الافتراق في الهيكلية والمجلس!

نعم..! لم أكن أدرك عمق تلك الكلمات حتى رأيت الفرق مجسماً أمامي بين الشخص نفسه، وهو يتقمص شخصيتين، ويقوم بأداء دورين بكل ثقة وإتقان طبقاً لاختلاف الشكل أو الموقع! فهو بهذا الشكل يمثل دوراً، وبالشكل الآخر يمثل دوراً مناقضاً لذلك الدور! وإن تعجب فعجب هذا الذي يقولونه بألسنتهم في زوايا المساجد، بينما تجدهم ينقضونه بعملهم عندما يجلسون على طاولات السياسة، دون أن يتنبهوا إلى المفارقة التي يقعون فيها بين زاوية المسجد وطاولة المجلس.

الأستاذ الشيخ

في يوم الجمعة (25/7/2008) استمعت على قناة (بغداد) الفضائية إلى خطبة شيخ هو عضو في مجلس النواب العراقي[1]. كان موضوع الخطبة منصباً حول حرية التعبير عن الرأي، وحق المواطن في ممارسة هذا الحق، وأن هذا – من جانب آخر – واجب عليه أن يؤديه مهما كانت الظروف، إلا في حالة الإلجاء أو الإكراه. وحتى في هذه الحالة يكون الأولى أن يأخذ بالعزيمة، فإذا قتل كان شهيداً، بل سيد الشهداء، ويتعين هذا الفعل أو العزيمة في حق العلماء أكثر.

ابتدأ الأستاذ الخطيب خطبته بالحديث عن أن علم الله مطلق، ولذلك هو يعلم أين المصلحة. فشرع لعباده ما يضمن لهم مصلحتهم. فالمصلحة في شرع الله، لا فيما نظنه بعقولنا القاصرة، وإلا كان ذلك طعناً في علم الله. وذكر برفيسوراً بوذياً قال: “لم أجد كالاسلام في تشريعاته جهة تنظم الحياة”. ثم دخل في صلب الموضوع فكان مما قال (أنا أجتهد أن أنقل نص كلماته قدر الإمكان):

اذا خشيت الامة ان تقول للظالم يا ظالم فلا خير فيها، باطن الارض خير لها من ظهرها. عندها سيهلك الله تلك الامة. انظروا كيف حينما كان العلماء يقولون كلمة الحق كانت الأمة عزيزة. واستشهد بالقصة المكرورة المملولة، التي الله أعلم بصحتها، قصة العز بن عبد السلام مع ملك مصر، حين ناداه باسمه المجرد ولم يقل له يا سيادة الرئيس. ولما سئل في ذلك قال: “استحضرت هيبة الله فرأيته كالقط”. وأنا أتوسل إلى الخطيب أن يستحضر هيبة الله حين يتحدث عن (دولتْ) رئيس الوزراء فيراه مرة واحدة كالبغل أو الثور مثلاً، ولن أكلفه عنتاً أن يراه كالهر أو الفأر، فلا يلقبه بدولت أو هيبت، ولا حشمت أو عصمت.

أليس الصحابة بايعوا الرسول على قول الحق – هكذا قال الخطيب ثم استمر يقول- بايعنا رسول الله بيعة… وأن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)، كل مسلم يبايع النبي إن كان صادقا ولا يخف… الا في حالة الاكراه. ومع ذلك فالأخذ بالعزيمة أفضل، حتى لو قتلت. البعض يتصور انه بمجرد الخوف يسكت. أما الأخذ بالرخصة فله حدود. حينما يكون هناك إضلال وتغرير بالناس، فالعالم يجب عليه في هذه الحال أن ياخذ بالعزيمة كالامام احمد حينما ترجاه أصحابه أن يرحم نفسه ويوري بكلمات يتقي بها غضب السلطان فقال لهم: “انظروا الى الناس لو تكلمت بكلمة لضلوا. هؤلاء كلهم برقبتي يوم القيامة”، حتى لا يكون سبباً في إضلال الكثيرين. سيد الشهداء من يقول للحاكم: أنت ظالم (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى حاكم ظالم فأمره ونهاه فقتله).

ثم قال: مع الاسف نرى داعية يزين للحاكم فعله خوفاً على نفسه. وكان ينبغي للقدوة ان لا يكون هكذا. حتى دخل بعض رجال الدعوة دائرة النفاق. من أجبرك ان تتصدر الدعوة وتتصدر الناس، وتكون أمعة للحاكم. اذن كلمة الحق يجب ان تقال. رايت قادة سياسيين يجاملون. البعض من اجل مصلحة انتخابية او سياسية لا يقول كلمة الحق. لا يجوز المجاملة على اساس الانتخابات او منافع سياسية او اجتماعية. (واذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) لا تقل هذا من حزبي او من كتلتي او مذهبي او ديني… لا خير فينا ان جاملنا على حساب المبادئ الدينية والوطنية. وإن أُبعدنا عن المناصب فسنخدم الدين والبلد في المساجد في الشوارع سنسير على هذا المنهج باذن الله اينما كنا. اذا كانت الحكومة تخالف قولوها لا تترددوا اخرجوا وقولوا: أنت باطل، كفى سكوتا عن الحق، اذا جاملنا من اجل المناصب فتلك كارثة على الناس. من الماساة ان نكون مجاملين، ونطلب من الحكومة ان تضمن حرية الآراء.

ثم ذكر مسألة المهجرين وقال: انا في لجنة لدراسة وضع المهجرين ووضع الآلية المناسبة لإرجاعهم، وذكر أن فيها بهاء الاعرجي، ولقبه بـ(الأُستاذ)، ولا أدري لم لم يستحضر هيبة الله هنا وهو على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرى هذا السفاح المجرم كالهر؟! ويجرده من هذا اللقب، لا سيما و(الأستاذ) ليس بملك ولا أمير. بينما هو يدعونا لنقتدي بالعز فلا نخاطب الملك بغير اسمه المجرد من أي لقب!

ثم قال، وظني أنه قالها دون أن يستحضر هيبة الله، ولو استحضرها لما قال: أدعو (دولت) رئيس الوزراء الى وضع ميزانية خاصة لعودة المهجرين؛ لأنه يكون قد رآه في هذه الحالة كالهر فلم يلقبه بـ(دولت) ولا (عِفّت).

ثم – بعد دقائق – أدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

اسمح لي أيها الشيخ الأستاذ أن أمارس حقي في التعبير عن رأيي بحرية

وأنا أستسمح الشيخ الخطيب، والأستاذ النائب أن يمنحني حقي في ممارسة التعبير عن الرأي بحرية، كما دعاني هو في خطبته، فيتحملني دقائق لأوجه إليه هذه الكلمات:

لا أريد أن أسأل فضيلته عن التناقض بين ما هو عليه واقع الحال في الممارسة السياسية التي تخوضها الجهة التي ينتمي إليها، وبين تأكيده في خطبته على أن المصلحة في شرع الله، الشعار الذي كانوا يصدرونه علينا أيام زمان، ثم تبين لنا كيف نحروه بعد الاحتلال باسم (المصلحة) المنفلتة عن أي قيد شرعي إلا على قاعدة (وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين)، وأعلنوا عن وفاته حين صاروا يتحدثون عن تبنيهم (الديمقراطية) بالطبعة الأمريكية، وتخليهم صراحة عن شعار (الدولة الدينية) إلى (الدولة المدنية)، وهو اسم مخفف مرحلي لـ(الدولة العلمانية).

ولا أذكره بعشرات المواقف التي تلزمه بالقول والإنكار وإبداء الرأي وهو تحت قبة البرلمان، ومنها جرائم كبيرة لا يصح السكوت عليها بأي شكل من الأشكال التي يخرِّجون عليها صمتهم، ومنها ما يتعلق بمصلحة إيران ضد بلدهم. من آخرها الموقف من منظمة (مجاهدي خلق) الإيرانية، الذي اشتعل وطيس مناقشاته الحامية في مجلس النواب في منتصف آيار الماضي (2008)، لم نسمع أحداً من أصحاب (المصلحة الشرعية) نبس ببنت شفة، أو تمعر وجهه، أو طرفت عينه. بينما خاض غمار الدفاع عن مصلحة العراق، ونند بإيران وعملائها في البرلمان وألقمهم حجر العمالة بكل موضوعية وبلا تردد اثنان محسوبان على التيار العلماني هما الأستاذ ظافر العاني والأستاذ صالح المطلك. وأقولها (أستاذ) وهيبة الله تعالى حاضرة أمامي؛ لأنهما يستحقانها بجدارة. بصرف النظر عما بيني وبينهما من اختلاف في المنطلقات الفكرية. ولا أدري ما الذي أسكتت الأخ الخطيب ساعتها هل هي هيبة الله؟ أم هيبة (الأستاذ) بهاء؟ أم جلالة جلال الصغير؟ أم هي المصالح السياسية الحزبية والفئوية والأنوية؟ فأين شرع الله؟ وأين هيبته جل جلاله أمام هذه القطط؟!

إنما أريد أن أعظه بواحدة.. واحدة فقط..!

المقابر الجماعية في المحمودية: أين الأستاذ الشيخ منها، وما يفرضه عليه شرع الله الذي أنزله بعلمه المطلق؟! مئات الضحايا دفنوا بعد أن ماتوا ميتة بشعة، اكتشفت جريمتهم في وقت كانت (جبهة التوافق) تتفاوض فيه على كراسي وزارات خائبة. لا أدري أي نص شرعي منزل برروا طبقاً إليه سكوتهم المطبق عن هذه الجريمة الكبرى والفضيحة العظمى؟! ولقد اتصلت بالأستاذ الشيخ أيامها هاتفياً وقلت له: “أراكم سكتم عن هذه الجريمة! وخفت لهجتكم بعد أن كانت عالية”؟! وأخذت أثير فيه النخوة والحمية الدينية والإنسانية. لكنه صار يعتذر بأن وسائل الإعلام لا تتجاوب معهم!! قلت له: “لديكم قناة بغداد، ومعها الرافدين والشرقية، وليست قناة الجزيرة منكم ببعيد، لماذا حتى قناتكم (بغداد) صارت تخفت شيئاً فشيئاً؟! والخطبة الماضية التي نقلتها القناة لم تتطرق حضرتك فيها عن هذه المجزرة الرهيبة ولو بكلمة، والحدث ساخن، وحرارته تتصاعد ألسنتها مع دعاء المظلومين وأنات الثكالى والمكلومين إلى السماء”؟! قال: “الله كريم الله كريم”. فأغلقت الخط بعد أن ترجح لدي أنني أغرس شجري في هواء الخريف!

وعملت في بداية آيار لقاء على قناة (الرافدين) بتوسط بعض الأصدقاء عن مقابر أهلي في مدينتي الحبيبة. ولكن.. مات اللقاء في مهده. ولم يعرض في الوقت المحدد. ولما اتصلت بمسؤول المكتب الرئيس في القاهرة قال لي: “سنعرضه في الوقت المناسب”. وصدق الرجل.. سيعرضونه في الوقت المناسب. وبما أنه ليس من وقت مناسب فلن يعرض أبداً. فهل ثمة أنسب من وقت والحدث في أيامه الأولى؟!

ثقوب في الثوب الأسود

في مقتبل الشباب قبل أكثر من ثلاثين سنة قرأت رواية رائعة للكاتب المصري إحسان عبد القدوس اسمها (ثقوب في الثوب الأسود). تعالج الرواية إشكالية الجيل الهجين في جنـوب إفريقيا، المولود عن طريق أم سوداء وأب أبيض. يسمى هذا الجيل الهجين

Untitled

بـ(الماتيس). وهو – بسبب لونه المهجن – يعاني من ضغوط نفسية اجتماعية شديدة حيثما حل، وأينما ذهب: سواء في الوسط الأبيض أم الوسط الأسود. لم يجد بطل الرواية الشاب الهجين أمامه من حل لما يعانيه من حالة صعبة سوى أن يصاب بمرض شائع بين جيله أسماه الأطباء بـ(عقدة الماتيس).

تتقمص صاحبه شخصيتان لا تعرف إحداهما الأخرى: شخصية تظهر حين يدخل بين أخواله السود ينسى فيها شخصيته الأولى التي تنتابه حين يعود إلى أعمامه البيض. كانت مشاهد ممتعة تمر على خيال القارئ وهو يرى أمامه إنساناً يعيش بشخصيتين بكل ما فيهما من اختلاف وتناقض، وما بينهما من فروق ومفارقات ومفاجآت. وطوحت بعدها بي الأيام بين الأماكن والبلدان، فضاعت مني تلك الرواية الرائعة، ولا زلت أشعر بالحنين إلى رؤية مشاهدها من جديد، ولكن دون جدوى.

شكراً للـ(أساتذة المشائخ)..؛ لقد أعادوني مرة أخرى إلى تلك الأجواء، وهم يمثلون أمام عيني تلك الرواية، ويعيدون إلي مشاهدها حية تسعى.

لقد أعادوني إلى أيام الشباب الأولى وساعات الصبا الحالمة.

شكراً لهم مرة أخرى.

___________________________________________________________________________________________

  1. – الشيخ حارث العبيدي.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى