مقالات

استحقاقات الطائفة والسلطة .. في موقف الحكومة من الاتفاقية مع أمريكا

 

azaz

يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى. فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).

حركتان – لا حركة واحدة – يتكون منهما أي حدث يقع في هذا الوجود:

  • حركة في الخارج: هي ما يرى منه في آفاق الكون أو أرض الواقع من قول أو فعل.
  • وحركة في الداخل: هي ما يجري منه في أعماق النفس ومكامن الضمير، وقد يعبر عنها في الزوايا المغلقة. وهذه الحركة الداخلية هي الأصل والأساس والمحرك؛ فمن دونها لا يمكن فهم الحدث، ومن الصعوبة الوصول إلى توصيفه التوصيف الصحيح، أو عنونته بما يناسبه من اسم وعنوان.

يقف الشيعة اليوم موقف الرافض من (الاتفاقية الأمنية بين العراق وأمريكا). وهذا الموقف تتفق عليه حكومتهم وجمهورهم في (حركة خارجية) يفسرها الناظر البادي على أنها تعبر عن حالة وطنية صحا القوم فجأة ليجدوا أنفسهم بين كماشتيها. وهذا الناظر إما غائب عن اعتبار (الحركة الداخلية) التي هي – كما قلت – الأصل والأساس والمحرك، أو هو يغض الطرف عنها لأسباب “أمنية” أو “اقتصادية”، أو تحقيقاً لمآرب ومزايدات سياسية، أو لياً لعنق الحدث من أجل أن يأتي مطابقاً لتنظيرات أرسطوية بعيدة عن الواقع.

بدأ المشهد بصورة تكاد تكون واحدة للحكومة والجمهور. ثم شيئاً فشيئاً بدأ نوع من الافتراق أو الاختلاف يلوح في الأفق ويظهر على المسرح، إلى حد أن البعض صار يصف الحكومة بـ(العمالة)، والجمهور بـ(الوطني). والحقيقة التي نراها أنه ليس من افتراق أو اختلاف إذا أرجعنا الحدث إلى عنصريه الأساسيين، أو رأيناه من خلال حركتيه: الداخلية والخارجية معاً.

نعم.. الحكومة والجمهور متطابقان تمام التطابق، سوى أن الحكومة لا بد أن تُجري تحويراً في الموقف تبعاً لاستحقاقات السلطة. ولو تبادل الطرفان المواقع لتبادلا الأدوار في تلازم ضروري لا انفكاك فيه بين الموقع والدور. الولاء للطائفة والتبعية لإيران هو المحرك الداخلي للطرفين بجامع المذهب أو الدين الذي ينتميان إليه. لكن لأن أحد الطرفين صار حكومة، ولأن هذه الحكومة محكومة بالوجود الأمريكي؛ إذن هناك عنصر جديد دخل في معادلة هذا الطرف من غير الممكن أن لا يظهر أثره في أحدى مساحات الصورة. بينما الطرف الآخر بقي سالماً من هذا العنصر فظلت صورته على حالتها الأولى. ومرة أخرى أقول: لو تبادل الطرفان المواقع لتبادلا الأدوار.

واستحقاقات السلطة لا تقتصر على الضغوط الخارجية مثل مطالب المحتل وأوامره، وإنما هناك ضغوط داخلية تنبع من طبيعة السلطة نفسها. انظر كيف جاء الشيعة إلى الكرسي معبئين بالرعب منه فكانوا يضغطون باتجاه تجريد الحكومة المركزية من صلاحياتها، وإعطاء صلاحيات واسعة لما أسموه بـ(الأقاليم)؟ لقد كانوا مسكونين بهاجس (أبو عداي)، فلا يكادون يرون الكرسي إلا ويرون ظله يزأر في جوانبه! ثم لما اطمأنوا إلى أنه ليس من ظل ولا شاخص صار المالكي يتلفت فلا يرى إلا نفسه فاحتل بقية المساحة وصار يطلب حقه كاملاً من التسلط والمركزية، وتغافلوا عن مطالبهم الأولى، حتى لا تكاد تذكر على ألسنتهم. وكانوا في أول الأمر يدافعون عن (حق) الأكراد في امتلاك جيش مستقل، ويرددون أن قوات (البيشمركة) ليست مليشيات، لكن استحقاق الكرسي فيما بعد أوجد أزمة ما زالت آثارها باقية حين أصدر المالكي أمره كقائد عام للقوات المسلحة للبيشمركة بالانسحاب من أطراف ديالى، ولم ينفذوا أمره هذا. و من منا لا يذكر كيف ظل نوري المالكي شهوراً يناور الأمريكان في تنفيذ تعهده بضرب جيش المهدي وبقية المليشيات الطائفية، وفي النهاية استسلم للأمر الواقع؟ وقد اختلطت مطالب الأمريكان الخارجية بمطالب أو دوافع السلطة الداخلية واختلاف الفرقاء على حصتهم من الجمهور في انتخابات مجالس المحافظات القادمة؛ فكانت المعارك بين الطرفين في آذار الماضي. ومع ذلك ظلت المحركات الطائفية تفعل فعلها في داخل المالكي فلم يطلق على هذه المليشيات الملعونة أكثر من اسم (الخارجين على القانون)، ولم يسمها بـ(الإرهابية)، كما هو شأنه في توزيع هذا اللقب بكل سخاء على أي جهة سنية، ولو كانت تقاوم المحتل، أو تقوم بواجب الجهاد.

ابحث عن إيران

تقول الحكمة الصادقة: (إذا أردت أن تفسر مواقف الشيعة في جميع البلدان والأزمان؛ فابحث عن الأم الحبيبة إيران). خذ مثلاً موقف مقتدى الصدر من كركوك الرافض لانضمامها إلى كردستان. يغضي الكثير من المغفلين أو المزايدين أو التنظريين التجريديين عن مقتضيات طائفيته ومذهبه، وعن علاقته بإيران وإقامته الحالية في قمها تحت ظل كاظم الحائري ومحمود الهاشمي، وعن جميع جرائمه، ليصفوا موقفه هذا مُعرّىً من كل هذه الحيثيات الصارخة بأنه موقف وطني، وربما عروبي! بينما الحقيقة – طبقاً لحركة الحدث الداخلية، التي تلخصها تلك الحكمة الصادقة، وتترجمها المعطيات الملموسة الناطقة – هي أن الأم إيران ليس من مصلحتها التحاق كركوك بكردستان، تمهيداً للانفصال وتكوين دولة مستقلة في أي فرصة مستقبلية سانحة؛ لأن هذا له تداعياته الحتمية في استنساخ التجربة داخل إيران نفسها. فما علاقة الوطنية والعروبة بمعادلة الحدث؟

وبالجمع بين العنصرين في معادلة الاتفاقية يمكننا أن نستشرف المستقبل القريب فنقول: الحكومة ستوقع الاتفاقية مع الأمريكان بطريقة بين بين، فهي من جهة تلبي استحقاق الطائفة في إرضاء إيران، ومن جهة تلبي اسحقاق السلطة في إرضاء الأمريكان.

أما الجمهور فسيظل على استحقاق الطائفة في رفضها، وتسيير المظاهرات لشجبها. وأما السيستاني فسيضفي عليها نوعاً من المشروعية بضبابية تتيح للحكومة مجالاً للتحرك المقبول في توقيعها، وتتيح له – كالعادة – التنصل من تبعتها، وتمكين المهوسين من القول بأنه كان ضدها، أو معها حسب متطلبات الموقف.

أما أصحاب الدوافع “الأمنية” أو “الاقتصادية” أو المزايدات السياسية، أو التنظيرات الأرسطوية فكل سيكون له موقفه طبقاً لتلك الدوافع أو المحركات الداخلية لتأطير الحدث بما تمليه عليهم تلك الدوافع والمحركات.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى