مقالات

نحن والفرس من يتجنى على من ؟ (2)

  1. الشعوب تمثلها نخبها الوطنية والدينية لا دهماؤها وعوامها

لقد دخل المجتمع الإيراني في الإسلام بفعل الفتح الإسلامي، وكان طابعه التسنن كناتج تلقائي لمجتمع يعيش في ظل دولة إسلامية سنية، ولأن موجات استيطان عربية كبيرة غزت الهضبة الإيرانية، ولأن جماهير الشعوب وعوامها ودهماءها ظاهرها على الدوام مع الحاكم تهتف له وتصفق وتعلن ولاءها. والشعوب لا تقاس بعوامها ودهمائها. انظر كم من عوام السنة في العراق ودهمائهم سارعوا لخدمة الاحتلال والانخراط في مؤسساته العسكرية والمدنية! أفهؤلاء – وإن كثروا – يمثلون الشعب العراقي؟! إن الذي يمثل الشعب نخبه الوطنية، خصوصاً النخبة المتدينة منهم، فهؤلاء – وإن قلوا أو تعرضوا للقهر والتهميش في فترة من الفترات – هم الذين يمثلون الشعب، وفيهم تجتمع خصائصه. وهؤلاء هم عنصر الشد وعامل الإثارة ومركز الاستقطاب. وفي جيناتهم تجد المادة الوراثية الخالصة لذلك الشعب. فإذا أردت أن تعرف أي أمة فابحث عن نخبها، وعن أهل الدين فيهم على وجه الخصوص. الشعب الفارسي لا تجده في عوامه الذين سلموا للأمر الواقع، إنما تجده في خلاصته الذين يحومون حول بيوت النار، وفي أبناء الملوك الموتورين، والأمراء المطاردين، وفي العلماء والمفكرين، وفي القادة السياسيين والعسكريين، وفي الشيوخ والدهاقين، وفي الكتاب والأدباء والخطباء والشعراء الذين يحنون إلى ماضي أمجادهم، وينوحون على مفاخرهم المفقودة، وأيام عزهم الغابر، ويؤججون مشاعر العامة باتجاهها، ويثورونهم على الوضع القائم على أساسها:

أُعجبتْ بي بين نادي قومِها
ذاتُ حسنٍ فمضتْ تسألُ بي
سَرَّها ما علمتْ من خُلقي
فأرادت علَمها ما حسَبي ؟image029لا تخالي نسباً يخفضني
أنـا مَـْن يرضيـكِ عنـدَ النسـبِقوميَ استولوا على الدهرِ فتىً
ومشَوا فـوقَ رؤوسِ الحُقـبِ

عمَّمـوا بالشمـسِ (!) هاماتِهمُ
وبنـوا أبياتَهــم بالشهــبِ (!)

وأبي كسـرى علــى إيوانِهِ
أينَ في الناسِ أبٌ مثلُ أبي

قد قبستُ المجدَ من خيرِ أبٍ
وقبستُ الدينَ من خيرِ نبي

وضممتُ الفخـرَ من أطرافِهِ
ســؤددِ الفـرسِ وديـنِ العـربِ

وما عدا هؤلاء فغثاء – بالنسبة إليهم – وناتج عرضي لحركة الحياة عند كل شعب، أو أفراد صالحون مغلوبون على أمرهم، لن يتمكنوا في نهاية المطاف من وقف مسيرة الحياة باتجاه ما تفرضه قوى الشد في مركز النخبة. ومن الطبيعي أن يخرج من أصلاب هذا الغثاء، وأولئك الأفراد نخب تعبد الله على بينة. كما أنه من الطبيعي لدى كل شعب أن تجد مجموعة من النخبة تخالف الخط العام لسير المجتمع في فكره وخلقه وعوائده. فحينما نتوجه بالنقد إلى الفرس إنما نقصد تلك النخب التي فيها لا في سواها تتمثل الشخصية الفارسية بكل مكوناتها وعناصرها الفاسدة والصالحة. أما غير هؤلاء فلا يمثلون الشعب، ولا نعنيهم بقولنا؛ لأنهم لا يمثلون الخط العام لسيره وسيرورته.

2. الحاكم الدخيل يتمثل أخلاق الشعب وعوائده أكثر من الأصيل

أما الاعتراض بأن بعض الحكام الذين تولوا قيادة إيران – كالصفويين مثلاً – لم يكونوا فرساً في أصلهم: فالجواب عنه ما يلي، وهو مذكور في كتابي آنف الذكر: (الفارسية) وباء يمكن أن ينتقل بالحث والعدوى، فيصيب أجناساً أخرى عاشرت الفرس وتأثرت بهم، أو أفراداً عاشوا بينهم، لا سيما من وصل منهم إلى رأس السلطة في إيران؛ لأن الحاكم يجد نفسه – كي يقود شعباً من الشعوب – مضطراً بطبيعة الحال إلى أن تتمثل فيه جميع الخصائص النفسية والعادات والعوائد الاجتماعية لذلك الشعب، وإلا لن يتمكن من قيادته. وكما أن رجلاً جاءت به الأقدار ليكون حاكماً أو شيخاً لقبيلة غير قبيلته لا يمكن له أن يقود القبيلة بتقاليد وأعراف غير تقاليدها وأعرافها، وإنما عليه – لكي يستمر في قيادتها – أن يتقمص روحها وشخصيتها، ويتمثل سلوكها، ويعبر عن أمالها وتطلعاتها، وإلا رفضته وفقد السيطرة على قيادها. بل إن هذا الحاكم أو الشيخ الدخيل عادة ما يكون متطرفاً في كل ذلك إلى الحد الذي يتفوق فيه على ابن القبيلة الأصيل؛ لأن عقدة الشعور بالغربة أو الدخالة كثيراً ما تدفع الدخلاء إلى هذا التطرف أو التصرف ليغطوا به على هذا الشعور الذي لن يشفوا منه مهما تطرفوا، وكيف تصرفوا! وهكذا فإن كل من كان من غير الفرس على رأس السلطة في إيران تقمص الشخصية الفارسية بكل خصائصها وعقدها رغم أنه ليس فارسياً في أصله وعنصره. إنه يحكم إيران بروحية الفرس ونفسيتهم وأعرافهم وتقاليدهم. بل إن تلك الخصائص تتمثل في الدخيل بدرجة أشد ظاهراً مما عند الأصيل بسبب الشعور بالغربة والدخالة. وهذا ما يدفعه إلى استعراض تلك الخصائص والصفات والتظاهر بها والتشدد فيها كي يغطي على ذلك الشعور. وهو السر الذي يفسر سلوك الصفويين المتطرف، حتى بات التشيع المنحرف يعرف بهم وينسب إليهم. وإلى هذا المعنى أشار البروفسور عماد عبد السلام رؤوف بقوله (الصراع العراقي الفارسي، المقدمة، ص18): “ومع أن سلالات غير فارسية حكمت إيران في بعض العهود إلا أن سياستها لم تكن لتختلف عن السياسة الفارسية التقليدية التي ذكرنا. فالافشاريون والزنديون والقاجاريون مثلا وهم ليسوا فرساً لم يكونوا ليصبحوا (شاهات) لإيران لو لم يلتزموا (بالعقدة الفارسية) فيحذون حذو أسلافهم في معاداة الأمة العربية”. وبهذا يتبين أن قاعدة الاعتراض معكوسة؛ فالحاكم الدخيل أشد تظاهراً بأخلاق الشعب واستعراضاً لها وتمثلاً لها من الأصيل.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى