مقالات

مدينة الأعظمية .. أيها العرب لن يشهد نبيكم على جور

http://www.iraqirabita.org/upload/module_pics/775.jpg

قبل أيام قليلة عرضت قناة (الشرقية) الفضائية مشهداً لنساء من مدينة الأعظمية يقفن مجاميع مجاميع ينتظرن على باب إحدى المنظمات الإغاثية. نساء فصل أزواجهن أو فصلن من وظائفهن، وأرامل في ميعة الصبا، وثكالى استشهد أبناؤهن على أسوار مدينتهم العتيدة، وبعضهم نالت منه خناجر الخيانة، وآخرون في غياهب السجون: يناشدن الحكومة العراقية الالتفات إليهن بعين الرحمة لإنقاذهن مما هن فيه من فقر وعوز، وجور وظلم، وانتهاك لحقوقهن وحرماتهن. نساء كن قبل سنوات معدودات يرفلن بثياب العز والغنى، ثم إذا بهن – ومن دون مقدمات أو فرصة لالتقاط الأنفاس – يجدن زمن التحرير والديمقراطية قد انتهى بهن إلى هذه الحال!

صور مكتوبة لمأساة منظورة

إحداهن موظفة قضت في وزارة النفط مدة (12) سنة طردت من وظيفتها، وزوجها عاطل عن العمل، تستغيث: من أين تأكل؟ من أين تشرب وتلبس ولا مصدر للرزق؟! ولا يمكنها الرجوع إلى الدائرة إلا بدفع رشوة لا تقل عن (1300) دولار وهي لا تملك شيئاً!

الأخرى تبكي مطالبة بالرجوع إلى الوظيفة، وتستنجد برئيس الوزراء أن يأتي ليرى بعينه آلامهم وجوعهم وفقرهم ومعاناتهم، وهم على أبواب المنظمات كالشحاذين.

ثالثة زوجها كان مقدم أمن وقتل، ولها أربعة أطفال، تراجع دوائر الدولة يرفضون احتساب راتب تقاعدي لهم، أو منحة تحت أي عنوان؛ بحجة أن زوجها كان ضابط أمن! تقول: كيف لي أن أقوم بمعيشة أولادي الأربعة وأنا أسكن بيتاً مستأجراً؟ وتناشد رئيس الوزراء أن تقابله لتشرح معاناتها.

وعجوز أخنى عليها الزمن حتى عادت كبناية قديمة مهدمة، تشكو غلاء الأسعار مع قلة الرزق، تستعطف المالكي أن يرحمهم وينظر لحالهم، وتستدر عطفه وهي تدعو له بالصحة والعافية!

أخريات يشكون مداهمة القوات الحكومية واعتقال أبنائهن فور الإفراج عنهم من المعتقلات الأمريكية، وناشدت أخريات تدخل الحكومة لوقف الانتهاك اليومي من قبل القوى الأمنية لحرمات البيوت؛ إذ يداهمونها دون مراعاة لخلق، ولا احترام لساكنيها من النساء وغيرهن.

وهكذا تتعدد الصور وتتشابه المصائب: لا راتب، لا تقاعد، لا فرصة عمل، لا مصدر رزق متيسر، وهم يدورون على أبواب المنظمات الإغاثية التي لا يخرج عطاؤها إلا نكداً! وترى النساء جالسات عند جدرانها الصماء بذلة وانكسار، وأمل يأتيه اليأس من كل مكان بعطاء لا يكاد يسد لحيٍّ رمقاً.

أهذا جزاء عوائل المجاهدين ..؟!

مناظر يتفطر لها القلب، وشكاوى تنغص على سامعها عيشه، وتشك مضجعه! وتتصل العين باللسان لتسأل: أهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال أهل الأعظمية؟! هؤلاء الذين وقفوا بصدورهم أمام المحتل، ولم تتمكن قواته من دخول مدينتهم إلا على جثث شبابهم وشيبهم؟! ومعركة الأعظمية – التي ابتدأت فجر يوم 10/4/2003، ولم تسكت أفواه القاذفات والبنادق إلا مع غروب شمس ذلك اليوم – شاهد عز لا تنمحي سطوره من جبهة التاريخ أبد الدهر.. يوم استبسل المقاومون وجادوا بأرواحهم رخيصة في سبيل الله. كان يوماً من أيام الله التقت فيه مدفعية الدبابات الأمريكية بالبنادق والقاذفات العراقية ومعها السواعد العربية، واشتد الوطيس وحمي حتى أجبرت دبابات الاحتلال على الانسحاب مع الغروب من المنطقة بالكامل، وهي مدحورة مخذولة! وتلك شواخص الشهداء في الحديقة الملحقة بمسجد الإمام أبي حنيفة النعمان تنطق بلسان فصيح أن مدينتهم وقفت وحيدة تغسل العار عن شقيقتها على الجانب الآخر من النهر يوم قد أجبرها شيعة الفرس أن ترتدي ملابس العهر – وما هي بذلك – لترقص طربة جذلى في حفلة استقبال نظمها أبناء العواهر لأولاد العاهرات.

وتستمر مقاومة الأعظمية، تعطي دروسها العميقة تصحح معادلة الخراب في عقول أبناء تكساس، تقول لهم: لسنا هنوداً حمراً.. انظروا: إن قامتنا بطول سبعة آلاف عام! وانظروا لأنفسكم في مرآة الأعظمية أيها الأقزام!

ويوم أراد أبناء متعة فارس أن يغيروا وجه بغداد ويهجروا شرفاءها كان للأعظمية أيامها، التي أعادت ترتيب الخلايا في قحوف رؤوس شيعة العجم وحثالات الأمم. لله درها من نجيبة! عجزت أرحام الدول أن تقوم عن مثلها!

أهذا هو جزاء هؤلاء الأحرار؟ وهذه هي نهاية مدينتهم وأهاليهم؟!

لا .. لا يصح ولا يستقيم.. إن هذا اختلال في ميزان الإنسانية، وشرخ في ثوب الشرف! هذا إن كان لمن بيده الأمر ميزان، أي ميزان.. وعلى سوأته ثوب.. أي ثوب!

ولكن..

بلى.. إذا كان الحاكم شعوبياً!

بلى إذا كان هو من فرش ظهره للمحتل كي يعبر إلى بلده! وسماه محرراً لا محتلاً!

بلى إذ اتخذ من يوم اغتصاب بغداد يوم عيد!

بلى..! إن الأعظمية بعظمتها وطهرها وشرفها، وعزها وعنفوانها وشموخها: لتذكره بقزامته ودنسه وسقوطه، وتنخسه بتواطئه وخسته وعمالته، وتقول له وهي تقف على نهر دجلة – رغم صروف الدهر ونوائبه – مهيبة رائعة: اخسأ أيها النذل الخطل! فلن تعدو قدرك مهما انتفشت، ولن تجاوز حجمك مهما انتفخت!

إني لا أشهد على جور

وإني لأتطلع اللحظة إلى الأفق العريض وأمام عيني هذه المناظر البائسة لصورة الشرف المجسمة، وأقول: كم من أعظمية في العراق ولا من مغيث؟! وأرجع بذاكرتي أياماً قليلة إلى الوراء فأجد الكثير الكثير من العرب والمسلمين وغيرهم من شعوب الأرض وقفوا مع غزة في محنتها، بل أهل العراق أنفسهم – والأعظمية منهم – تنكروا لفقرهم وخصاصتهم وآثروا أخت مدينتهم بما استطاعوا في أنفة وصمت. وانهالت المساعدات على غزة، والدعم بكل أنواعه. ولسنا ضد هذا، بل إن الوقوف مع كل منكوب على وجه الأرض دين نتقرب به إلى الله تعالى، فكيف إذا كان مع أهلنا وإخواننا؟! ولكنني أعجب من هذه المفارقة الظالمة والتفرقة الجائرة الغاشمة بين العراق وفلسطين؟ والأعظمية وغزة؟!

وأعود لنفسي وإن فمي ليشرق وعيني لتغرق بحديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضِيَ اللَّه عنْهُمَا إذ يحدثنا أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسول اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْني هذا غُلاماً كَانَ لي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: «أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحلْتَهُ مِثْلَ هَذا؟» فَقَال: لا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: « فَلا تُشْهِدْني إِذاً فَإِنِّي لا أَشْهَدُ عَلى جَوْرٍ» متفق عليه.

أيها العرب! أيها المسلمون!

إنكم بنسيانكم العراق، وترككم أهله وشرفاءه ومجاهديه يتلظون جوعاً وفقراً، ويعانون عسفاً وظلماً، لا تشهدون على جور فحسب، وإنما تمارسونه عملاً، والعمل أبلغ وأعمق، مهما تذكرتم غيرها من البلاد، وأغثتم من العباد!

اذهبوا فلن يشهد لقسمتكم رسول الله؛ لأنه لا يشهد على جور!

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى