مقالات

من يلعن من ؟ وقفة مع أحدوثة اللعن على عهد الأمويين (4)

د. طه حامد الدليمي

علي وعمه العباس يتساببان أمام الملأ

روى البخاري قصة تخاصم علي وعمه عباس رضي الله عنهما بسنده عن مالك بن أوس النضري: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعاه، إذ جاءه حاجبه يرفأ فقال: هل لك في عباس وعلي يستأذنان؟ قال: نعم، فلما دخلا قال عباس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا، وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من بني النضير، فاستب علي وعباس، فقال الرهط: يا أمير المؤمنين اقض بينهما، وأرح أحدهما من الآخر). وهذا ربما أشد مما جاء عن معاوية وعلي من الآثار، سيما وأن عباساً هو عم علي فكيف يسب الرجل عمه، والعم صنو الأب كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم؟! ولكن مثل هذا يحدث بين البشر، ولا ينفي وقوعه، أو إذا ثبت عنده وقوعه يحمّله فوق ما يحتمل، إلا من لا يستحضر طبيعة الأشياء، أو يجرد الإنسان من بشريته: فيرفعه أو يخفضه كأنه ليس من جنس البشر. وهؤلاء هم أهل (النظرة العصموية) من الشيعة، و (النظرة التقدسية) من أهل السنة. وفي قصة ماء خم أن سباباً وخصومة حصلت بين علي وبعض الصحابة، وكذا حصل بين خالد وابن عوف رضي الله عنهما. فكان ماذا؟ فعلام نقبل مثل هذا ونتأول له، ثم لا نتصور وقوع مثله أو ما هو دونه بين اثنين هما علي ومعاوية؟!

هذه هي طبيعة الأشياء بين الأقران وما يحصل بينهما من مماحكات وخصومات بسبب حركة الحياة وتعارض الإرادات واختلاف التأويلات، بصرف النظر عن صحتها من خطئها.

حقيقة المشكلة بين علي ومعاوية

ما حصل بين علي ومعاوية هو اختلاف شديد، وصراع إلى حد التقاتل الذي سفكت فيه الدماء، وأزهقت فيه أرواح الأحبة. ولكل واحد منهما نظرته واجتهاده. ولست في معرض الحديث عن هذه المسألة، وعذر كل واحد منهما، ومقدار اقترابه وابتعاده عن الحق. فذلك أمر يطول، ويحتاج البحث فيه إلى ضوابط عديدة، مر بعضها في هذا المقال. أراها مفقودة – كلياً أو جزئياً – عند أغلب من خاض في الموضوع؛ ولذلك لم يصلوا إلى الصورة الأقرب إلى الحقيقة.

المهم أن الرجلين اختلفا إلى حد القتال. وهنا نسأل: أيهما أشد وأعظم وأفظع أن يقتل الرجل صاحبه – وقد كان علي ومعاوية حريصين على ذلك في ساحة القتال – أم أن ينال منه بكلمة في مجلس ما، في حالة الله أعلم بماهيتها؟

لا شك أن القتل أعظم وأشد وأفظع. ومع ذلك فنحن نقر بوقوعه بينهما، ومع وقوعه نبتغي له التأويل الحسن للجانبين. فتأويل الأخف أولى وأحرى.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فليس بمستغرب أن يكون بين المختلفين إلى هذا الحد كلمة نابية أو نيل من الآخر في حال تدفع إلى مثله. إنما المستغرب العكس، وهو إنصاف الآخر، ثم ذكره بخير، ومدحه والثناء عليه، والنهي عن ذكره بسوء. وهو الغالب على علاقة الرجلين ببعضهما، وفي الأثر من ذلك الكثير. هذا هو ما ينبغي أن يكون (مركز النظر)، وليس ما نجد عليه أكثر الخائضين فيه؛ لأنهم يجردون الحدث من طبيعته وقرائنه وظروفه التي كان عليها.

من يلعن من ؟

أخيراً أقول كما يقول غيري: إن هؤلاء المبتدعة ينكرون سب معاوية لعلي وهو قرينه، وهم لا يتورعون عن سب خير البرية بعد الأنبياء أبي بكر وعمر وعثمان! وكتبهم طافحة بذلك. بل يلعنون سعداً بن أبي وقاص محررهم من عبودية المجوس، وسعد لا يرضى بسب علي ويروي من فضائله ما يقول عنها: (لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم)! ويلعنون سهلاً بن سعد الذي يأبى أمر الحاكم بشتم علي، ويحتج بفضائله!

ملكنا فكانَ العفوُ منا سجيةً فلما ملكتمْ سال بالدم أبطُحُ
وحللتمو قتل الأُسارى وطالما رجعنا على الأسرى نمنُّ ونصفحُ
فحسبكم هذا التفاوتُ بينَنا وكلُّ إناءٍ بالذي فيهِ ينضحُ

وصدق ابن كثير إذ يقول عن هؤلاء في تفسير قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100): (قلوبهم منكوسة وعقولهم معكوسة إذ يسبون من رضي الله عنهم).

هذه هي المشكلة ، وهذا هو الطريق

يقول الشيعة: إن الأمويين نشروا سبعين ألف منبر لشتم علي والطعن فيه. بينما الحقيقة هي أن الشيعة هم الذين نشروا سبعين مليون منبر لشتم الصحابة وعظماء الإسلام منذ قتل رستم وإلى اليوم! وهذه مفارقة كبيرة لا يمكن ردم هوتها! إن معاوية والأمويين قد ماتوا وأفضوا إلى ما قدموا، والله حسيبهم على ما فعلوا. فإن كانوا سبوا أو شتموا فالموعد الحشر، وعرصات يوم القيامة عند حكم عدل لا يظلم عنده أحد مثقال ذرة؛ فما لكم تستعجلون؟! عليكم إذن أن تقفوا عند المهم وهو هل إن أهل السنة اليوم يسبون أو يلعنون؟ فإن لم تجدوا جواباً بالإيجاب تكون المشكلة قد انتهت. فعلام أنتم تستشكلون وتشكون وتبكون وأنتم سامدون؟!

لكنكم لا تريدون للمشكلة أن تنتهي بدليل أنكم تصرون على تسميتنا بالنواصب، وتتهموننا باللعن والسب، وتحملوننا أوزار التاريخ التي اختلقتموها أو حرفتموها. وعلى ذلك تقتلوننا وتذبحوننا. والعراق اليوم شاهد. وهذا هو المقصود، وهو المطلوب لمن يحرك الأمور سراً أو جهراً. فلو صدقت نواياكم لما فعلتم شيئاً من هذا. إذن ثمة قصد مسبق من وراء التهمة، وإصرار عليها… وإن اتهامكم لنا مع ثبوت براءتنا دليل على أن الحال واحدة بيننا وبين أسلافنا: فأنتم تتهمونهم بأمر هم منه برءاء، كما تتهمونا سواء بسواء.

لكن ليس هذا هو الأهم في الموضوع. إنما هو أنكم أولى بالتهمة، وأنتم أحق بها وأهلها! فأنتم تلعنون خيار الأمة، ممن هو دون علي، أو هو خير منه لا فرق عندكم. وتصرحون بهذا في شاشات فضائياتكم وفي مظاهراتكم وكتبكم ونشراتكم وفي كل مكان وزمان. وقد خصص المجلسي مجلداً هو المجلد (30) من موسوعة الكذب المسماة (بحار الأنوار)، وإنما هي (بحار الأوزار)، لتكفير أبي بكر وعمر وعثمان ولعنهم وسبهم سباً مقذعاً، والشهادة لهم بأشنع العذاب وأفظعه في أدنى دركات جهنم!

من هم النواصب إذن؟ الذين يترضون عن الأصحاب جميعاً بمن فيهم علي وآله؟ أم الذين يلعنون الصحابة علناً ويناصبونهم ويناصبوننا معهم العداء؟ ويطعنون في علي وآله طعناً مبطناً ليس من الصعب على الفطن إدراكه؟

هؤلاء هم النواصب! وهم الروافض!

وهذه هي المشكلة! فلا تلتفتوا إلى أوهام سواها.

ونصيحتي لأهل الحق أن لا ينشغلوا بالدفاع؛ فما عندنا شيء في حاجة إليه مع قوم هم أولى بالدفاع عن أنفسهم وتغطية سوءاتهم التي لا يغسل قذاها بحار الدنيا. فهاجموهم – لله أبوكم! – وافضحوهم وأشغلوهم بأنفسهم.

هذا هو الطريق فاستمسكوا به إنكم على صراط مستقيم.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى