مقالات

من هو .. الأولى بإعادة النظر

402716_302358153162473_1192430966_n

في حوار للأستاذ صلاح عمر العلي – وهو بعثي ومسؤول كبير قديم في دولة العراق – على موقع الهيئة نت في (16/5/2009)، والذي أجراه مراسل الهيئة الأستاذ جاسم الشمري: دعا المقاومة “أن تعيد النظر باستمرار بطرق ووسائل نضالها ضد المحتل، وتعمل على تكييف حالة الجهاد، بحيث تتوافق مع المتغيرات التي تطرأ على القضية العراقية”.

ونحن معه في هذا الكلام المحكم، والنصيحة الغالية. لكننا نعلم أن أولى الناس بالنصيحة صاحبها؛ فالمفترض في هذا الخطاب أن يكون موجهاً للجميع بمن فيهم قائله الكريم، والجماعة التي ينتمي إليها. غير أننا لم نجد في ما قاله الأستاذ صلاح في حواره المذكور من جديد يدل على أن مراجعة وإعادة نظر جرت للموروث القديم، رغم أنهم أولى الناس بذلك؛ فهم يتحملون المسؤولية الأكبر فيما حصل للعراق على أساس أن المسؤولين هم أول المسؤولين. كلام سمعناه منذ أكثر من أربعين سنة في الصحافة والإذاعة والتلفاز، وفي الخطابات السياسية والمنبرية، وقرأناه في المدارس أيضاً. ولولا التاريخ المرقوم إلى جانب الحوار لحسبته مستلاً من أحد كتب التثقيف الحزبي التي كثيراً ما كانت تقع في أيدينا، وتعرض علينا طيلة تلك الفترة!

إن تجربة البعث في العراق بعد ثلاثة عقود ونصف، وقد انتهت تلك النهاية الكارثية، هي أول ما يحتاج حاجة ماسة إلى إعادة تقييم وتقويم، ونظر بطرق ووسائل وخطاب نضالها، وإجراء تصحيح جذري لذلك كله. ومن ذلك الخطاب الوطني العاطفي الحماسي الذي اعتادوا وعودوا عليه. الخطاب الذي يطفو على الواقع والوقائع، ويتشبث بالتاريخ، ويتعكز بالمنطق الارسطي. مع أن التاريخ لا تتحرك عجلته من دون جغرافيا تناسبه وتحتضنه وتجعله حياً فاعلاً متحركاً.

الخطاب القديم الجديد

لقد ظل الرئيس الراحل صدام حسين يردد (الشعب العراقي موحد، وتاريخه يمتد إلى سبعة آلاف عام، وأمتنا واحدة، ورسالتنا خالدة؛ فلا يمكن لأمريكا، أمريكا التي لا تاريخ لها أن تهزم شعباً بهذه المواصفات، خابوا وخسئوا). ورغم ذلك وقعت الكارثة، وهزمت أمريكا التي لا تاريخ لها هذا الشعب التاريخي، واحتلت بلده وأهانت أهله، واستباحت نساءه، وانتهكت حُرمه، مع (وحدته) وتاريخه وحضارته! أما الأمة (الواحدة): فقسم يتفرج، وقسم يتأوه، وآخر مستبشر، ورابع أعان المحتل علينا! وظهر للعيان أن الشعب ليس واحداً ولا موحداً. وأن حضارته وأمته لم تدفع عنه غائلة الاحتلال. وأن الشعارات العائمة لا تغني عن الطائرات المهاجمة، ولا تزيح الدبابات الجاثمة.

ما أريد قوله هو أن الأستاذ صلاح العلي وجمهور البعثيين، ومعهم عامة (الإسلاميين): القدماء والجدد، ما زالوا على ذلك الخطاب العاطفي القديم، والشعار الحماسي العقيم. ولو كان ثمة برنامج فاعل على الأرض لعلاج المرض الطائفي، لما اعترضنا على الشعار؛ فهو من مقتضيات السياسة، وهو ما يفعله ساسة الشيعة، الذين حافظوا على توازن دقيق بين شعار وطني وبرنامج طائفي، مع أن الأمور لم تكن كلها بأيديهم.

يسأله الأستاذ جاسم: (هل هناك اليوم في العراق فتنة طائفية، ومن يقف وراءها ويغذيها)؟ ولا أدري هل كان الأستاذ صلاح يعني ما يقول حين قال وهو يردد العبارة القديمة نفسها: “إذا كان المقصود بهذا السؤال عن الفتنة الطائفية بين أبناء الشعب العراقي، فهي بكل تأكيد لا وجود لها مطلقا (انتبه..! “بكل تأكيد” و “مطلقاً”)، فشعبنا شعب أصيل وعريق في ثقافته وحضارته”؟!

أليس هذا هو الخطاب القديم العقيم نفسه، الذي لم يطعم أحداً منا من جوع، ولا آمنه من خوف. أفهكذا يكون الكلام: (بكل تأكيد لا وجود للفتنة الطائفية مطلقاً)! وهذا القتل الذريع الذي عم العراقيين بعد الاحتلال ما سببه؟ أغير الطائفية؟! وهل احتل العراق إلا على أساسها؟! إن الأرضية الطائفية التي قامت عليها الفتنة لم تكن وليدة اللحظة، ولا من صنع الاحتلال! أبداً.. الاحتلال لم يصنع التقسيمات الموجودة، كل الذي فعله أنه كشف عنها الغطاء فظهرت على السطح سافرة، ثم صار يصفق لها مشجعاً، ويؤزها لتكبر وتشب عن الطوق، ويستثمرها بالاتجاه المرسوم.

وقفة قصيرة للحساب

ثم هو يقول بعدها: “يعرف جميع أبناء العراق أن النظام الذي أنتجه الاحتلال في بلادنا نظام مليشياوي بالكامل؛ فالجيش والشرطة وقوى الأمن وأجهزة الدولة الحالية تأسست من دمج قوى ميليشياوية تابعة لعدد من الأحزاب والقوى السياسية المشاركة فيه”!

أليست هذه المليشيات، التي هي قوام القوى الأمنية – كما ينصص الأستاذ صلاح العلي نفسه – من (أبناء هذا الشعب العراقي الأصيل العريق)؟

وبحساب بسيط تتبخر تلك الشعارات القديمة العقيمة:

  • كم عدد هذه القوى الأمنية؟ هل أقل من نصف مليون؟
  • كم عدد الذين يقفون وراءها من التنظيمات السياسية والمؤسسات الفكرية والثقافية والدينية والعشائرية وغيرها؟ هل أقل من مليون؟
  • كم عدد الغوغاء والجماهير التي تسندها و(تهوس) لها ولأفكارها، وتنفذ مخططاتها؟ هل أقل من ضعف هذا العدد مرتين أو ثلاثاً؟ وهل جيش المهدي كان تنظيماً غريباً عن حاضناته في حي الثورة والشعلة والحرية وأبو دشير والمحمودية وغيرها وغيرها؟ أم الحقيقة أن هذه الحاضنات تنفر كلها معه في مشروعه في الذبح والتهجير الطائفي؟
  • هل يمكن لك الآن أن تخبرني كم أصبح حاصل العدد؟ هل أقل من خمسة ملايين؟

خمسة ملايين طائفي، ويحكمون العراق – هذا على أقل تقدير – والفتنة الطائفية لا وجود لها في العراق “مطلقاً” .. و “بكل تأكيد”؟!!! لأنه “شعب أصيل وعريق و و و”!

خطاب صدع رؤوسنا

بعد أيام (في 1/6/2009) وعلى الموقع نفسه يدور حوار مع شخص آخر من الجيل المتقدم نفسه، يجريه الأستاذ الشمري أيضاً. ويتكرر المضمون عينه، ولكن بتقديم وتأخير في الكلمات، وتغيير في صياغات الجمل! وهذا يعني أيضاً أن المنظومة التي يمثلها الموقع، والتي هي تأسيس جديد لم تأتنا بجديد، إنها تسير على الخط القديم نفسه، الذي أدى بنا إلى الهاوية، دون اعتبار بما حل بنا، ولا رؤية للنهايات التي آلت بنا إليها تلك المقدمات!

أي إن الوليد ولد هرماً..!

وإذا كان ثمة بعض عذر لأولئك القدماء من حيث أنهم خاضوا تجربة بِكراً على غير قياس، فما عذر مؤسسات (جديدة) أمامها تاريخ أربعين سنة مفتوحاً على دفتيه، كانت تنتقده وتعارضه؟ على أي شيء كان الاعتراض إذن؟ هل هو اختلاف أدوار لا اختلاف أفكار؟ يا لبؤسنا! وسوء حالنا إن كان هذا هو السبب أو العلة الخفية!

كان الحوار يدور مع وزير على عهد الرئيسين الراحلين عبد السلام وعبد الرحمن عارف هو الأستاذ عبد الكريم هاني. أستل منه هذا المقطع:

الهيئة نت: هل هنالك فتنة طائفية اليوم في العراق، ومن يقف وراءها؟

هاني: الشيء الذي أؤكد عليه أنه في كل محاولات التهجير التي جرت في العراق لم يساهم أبناء المحلات او المناطق في تلك الحملات، بل وقفوا ضدها على قدر استطاعتهم، سواء كانت عمليات القتل أو التهجير، كما بذلوا جهوداً كبيرة لحماية أبناء تلك المحلات، لقد كانت العملية مستوردة ومهيأً لها قبل الاحتلال.

أرأيتم هذا الصنف من الخطاب التقليدي، والنوع من التفكير المتقولب! ذلك الخطاب والتفكير الذي يريد – رضيت أم أبيت – أن يُخضع الواقع بكل ما فيه من شواخص ومتغيرات لقالبه الذي هو عليه، على ما هو عليه، مهما كان قديماً، ومهما ظهر أنه لا يحكي ولا يحاكي ولا يتلاءم مع مستجدات الواقع الجديد! فكيف وقد ثبت أنه كان خاطئاً من الأساس؛ إذ لم يكن ملائماً حتى لواقعه القديم عندما كان جديداً، ولو كان لما كان!

يحاول أصحاب هذا الفكر النمطي الجاهز أن يجدوا له شواهد من وقائع الميدان حتى ولو كانت بعيدة الدلالة ضعيفة العلاقة. وعندما تعييهم الحيلة يمارسون – ربما بلا وعي – عملية تقطيع وإضافة وحذف لصنع الصورة التي تتطابق مع قوالبهم الجاهزة. وحين يجدون الأمر لا تنفع معه كل عمليات المونتاج والترقيع والتجميل لا يترددون عن صنع صورة أخرى تتطابق مع الصورة المصلوبة في خيالهم، ثم يضعونها أمام عينيك ليغطوا بها المشهد المغاير تماماً لما صنعوه! وإلا بربك هل نحن نعيش على كوكب المريخ؟! أم نحن قادمون من مجرة (مسحال الكبش)؟! لنقتنع بوجود هذه الصورة التي تعجز عن رؤيتها أقوى المجاهر الألكترونية، ولا أدري كيف رآها هو ليقول: “الشيء الذي أؤكد عليه (انتبه..! إنه يؤكد!) أنه في كل محاولات التهجير التي جرت في العراق لم يساهم أبناء المحلات او المناطق في تلك الحملات، بل وقفوا ضدها على قدر استطاعتهم، سواء كانت عمليات القتل أو التهجير” !!!…..!!!…..!!! ولك أن تلاحظ العبارة التوكيدية نفسها تتكرر في كلام الرجلين الفاضلين: “بكل تأكيد.. أؤكد”! يظهر أن تأكيد القوم في حاجة ملحة إلى تأكيد! وأنا أؤكد ذلك و…. بكل تأكيد!

من لطائف الحوار

haia

يعز عليّ أن أترك الحوار السابق قبل أن أعرض عليكم بعض ما جاء فيه من لطائف:

الهيئة نت: هل تعتقد أن أمريكا جادة بالانسحاب من العراق؟

هاني: لا.

الهيئة نت: لماذا؟

هاني: سياسة أمريكا واضحة ومستقرة لا تتغير بغير المصلحة الأمريكية.

ثم بعد قليل:

الهيئة نت: ما الذي يدفع أمريكا للتفكير في الخروج من العراق؟

هاني: الرغبة الملحة في الخروج من هذه الورطة، نتيجة للضربات التي تسددها لها المقاومة العراقية الباسلة وما ألحقته بقواتها المحتلة من خسائر بشرية ومادية كبيرة، وما تعانيه امريكا من أنهاك عسكري، وازمات اقتصادية لم يشهدها تاريخ الولايات المتحدة حيث صار الفقر وما يجره من ويلات يشاهد في أطراف المدن الأميركية الكبرى. إ.هـ.

أما أنا فلا أعرف كيف أوفق بين عدم جدية أمريكا بالانسحاب من العراق، وبين رغبتها الملحة في الخروج، مع تعداد أسباب موضوعية معقولة جداً لأن تكون جادة في رغبتها هذه، لا سيما حين تكون (ملحة)!!! أرجو من لديه جواب عن هذا التناقض (الملح)، والذي لا أجد له تفسيراً مقنعاً سوى أن البعض يسير على طريقة (الزبون دائماً على حق): أرجو أن يجد لي مخلصاً من هذا الإشكال.

يا قوم!

اتقوا الله! نحن في كارثة، لا يليق معها هذا الهزل!

نتمنى على الأستاذ جاسم الشمري أن يعرض في حواراته الرأي والرأي الآخر، وأن يحاور جميع الأطياف ممن يتوافق وممن لا يتوافق مع رؤيته. لا أن يجري تحديد المحاورين مقدماً حسب المقاس.

وأرجوك يا أستاذ صلاح! أن تغيروا من خطابكم هذا الكارثي، الذي كان – وما زال – خادماً مخلصاً للمشروع الطائفي، ولكنكم لا تدرون! أو تضعوا لكم برنامجاً واقعياً فاعلاً على أرض العراق يقف أمام هذا الطوفان الطائفي، وإلا فإن أهل السنة بعد عشر سنين، وربما أقل! ستجدونهم – لا سمح الله – عند حدود الوليد وطريبيل، يبحثون لهم عن مأوى، ولا من مغيث.

وظني أنكم يومها سنجدكم كما أنتم ما زلتم على خطابكم الحماسي نفسه، ومنطقكم الأرسطي عينه، وأنتم لا تملكون لنا – كما أنتم اليوم – سوى شعاراتكم القديمة الجديدة هي هي لم ولن تتغير، وبكل ثقة.. وتأكيد.. وبالمطلق أيضاً ترددون: اسكتوا فليس من فتنة طائفية في العراق إطلاقاً وبكل تأكيد؛ فالشعب العراقي شعب أصيل وعريق!

 

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى