مقالات

يوم النصر العظيم .. وقفة تأمل مع حركة التاريخ

images-e6b0dd65ac

8/8/88 يوم خالد في ذاكرة العراقيين.

إلا الشعوبيين ومن دار في فلكهم: فهؤلاء يشكل في ذاكرتهم هذا اليوم شوكة أليمة تنخسها كلما دارت السنة دورتها على كلاب المجوس؛ فلا يجدون مهرباً إلا (الانسحاب Withdrawal). وهي حيلة نفسية تكلمت عنها قبل سنتين عندما سئل المالكي وهو في إيران عن هذا اليوم فأجاب (لا أدري ماذا يعني يوم 8/8/ لكنني سمعت أنه يوم نهاية الحرب مع إيران. وهذا شيء جيد)! ويعني (الانسحاب) في علم النفس: (ابتعاد الشخص المتأزم عن المواقف التي يحتمل أن تثير في نفسه القلق ويقترن بالتبلد وعدم الاكتراث واللامبالاة).

وأنا أكتب هذه السطور، وفي هذه اللحظة وردتني رسالة على الهاتف المتنقل من قريب لي في ناحية اللطيفية يقول نصها: (نهنئ الأمة العربية والعراق العظيم بذكرى يوم النصر العظيم على الفرس، والله أكبر والعزة لله. عاش العراق). فكتبت له كلمتين: (عفيتَين بالأصيل). وهذا يؤكد خلود هذا اليوم في ذاكرة العراقيين، كما قلت قبل قليل.

إنه يوم النصر العظيم!

في هذا اليوم كان الإعلان الفاضح عن كسر إرادة الشر الفارسية المجوسية، وبطلان سحر الخميني. لقد هزمت المجوسية المقنعة هزيمة منكرة عبر عنها هو نفسه لا غيره بقوله: (أشعر أني أتجرع كأس السم)..! ولو كان على حق لنصره الله جل وعلا؛ إذ أن الحسابات المادية بمجموعها راجحة إلى جانبه، فلم يبق إلا جانب الحساب المعنوي المتعلق بالحق والباطل حينما يكون أحدهما إلى جانب هذا دون الآخر؛ فيكون الاندحار والذل وتجرع السم من نصيب الباطل وأهله.

يحدثنا التاريخ عن هزيمة الفرس المجوس في آخر معركة لهم مع العرب المسلمين التي انفتحت بعدها بلاد فارس أمام رسل الفتح الإنساني، وهي معركة نهاوند سنة (22هـ)، التي سميت بـ(فتح الفتوح). لقد انهارت بهذه المعركة الإرادة العسكرية الفارسية، ولم يعد الفرس قادرين على المواجهة بالوسائل القتالية، فماذا فعلوا؟ عقد ملكهم المهزوم كسرى يزدجرد مؤتمره الشهير بـ(مؤتمر نهاوند)، وقرر فيه، مع أساطين السياسة والمكر الفارسي، أن تكون المواجهة بعد الآن داخلية لا خارجية، ومن وسائلها التمظهر بدين الإسلام لنخره من داخله، والتمكن من قيادة المؤامرة من خلال الصف نفسه. وهكذا كان. حتى جاء نصير الطوسي وابن العلقمي بالمغول إلى بغداد.

وبعد هزيمة الفرس في معاركهم معنا طيلة ثماني سنين، وانهيار الإرادة العسكرية الخمينية وإعلانها الهزيمة في 8/8/88 لجأوا كعادتهم إلى المكر والغدر لنخر الصف من الداخل وإسقاط بغداد بالطريقة نفسها التي أسقطوها بها في المرة الأولى. وهكذا كان. فجاءونا هذه المرة بالغزاة الأمريكان.

عند استقراء التاريخ مرة أخرى نجد الشعوبية تكرر تمكنها من بغداد مرات عديدة: الخراساني والخلال على عهد المنصور، البرامكة على عهد الرشيد، آل سهل ورؤوس المعتزلة على عهد المأمون، البويهيون في القرن الثالث وبعض الرابع. في تلك الفترة كانت الشعوبية تكاد تلتهم خارطة الأمة، فقد تعاصر البويهيون مع القرامطة في شرق الجزيرة، والفاطميين في مصر والمغرب، وحركات أخرى هنا وهناك في شمال العراق والشام على درجات متفاوتة من الانتماء الشعوبي. ولكن ذهب هؤلاء جميعاً، وعادت الدولة والأمة من جديد إلى حضنها وانتمائها الطبيعي، على الرغم من انكسارها الكبير على يد المغول، الذي مكن للشعوبية في بغداد من جديد.

هذا يعني أن حركة التاريخ إلى جانبنا. وهذه نقطة مهمة نريدها حاضرة في حساباتنا ونحن نستشرف المستقبل، دون إلغاء بقية نقاط وعناصر المعادلة.

اليوم تمكنت دولة الشعوبية من بغداد. لكنهم لم يتمكنوا طيلة السنوات الست الماضية من أن يثبتوا للناس، حتى من شيعتهم، أنهم أهل للحكم وبناء الدول. إنهم شراذم حاقدة تعيش بأجسادها في القرن الحادي والعشرين، أما عقلها الجمعي فما زال غارقاً في حمئة التاريخ وبركه الآسنة بعيداً عن فضاءاته الخضراء الجميلة. ماذا جلبوا لبغداد غير الخراب والحراب، والمزابل والذباب، وتعطل المصالح، وانعدام الخدمات، والعطالة والبطالة، والرعب والخوف، ومعه اللطم والبكاء والعويل في مسيرات بكائية متخلفة لا تنتهي حتى تعود، لقطعان لا عقل لها، تردد دون وعي: “يا لثارات الحسين”، وتعني دون أن تعي: “يا لثارات كسرى”! إلى الآن لم تتزحزح خطوة عن أساطير فدك والضلع والغدير، وهواجس الطف، والجمل وصفين. ثم هي تريد بهذه العقلية الثأرية المتخلفة الحاقدة أن تؤسس لدولة عصرية حديثة! وها هم يزحرون ومنذ ست سنين ونيف، ولا يقدرون، ولن يقدروا. (وتأبى الطباع على الناقلِ).

نعم! العراق مقبل على مرحلة خطيرة: فبغداد طيلة (1300) عام لم يتغلغل فيها الشيعة ويكون لهم فيها هذا التواجد الكمي كما هم اليوم. والحكومة جادة في تنفيذ برنامجها الطائفي في جعل بغداد شيعية بامتياز، والتأسيس لدولة التشيع الفارسي التي تمتد إلى شمالي سامراء. فيحتاج ذلك منا إلى اليقظة والعمل، دون أن نترك للإحباط واليأس طريقاً إلى الوقوف أمامنا. فقارئ التاريخ يدرك أن ظروفاً مرت بنا أهل العراق من قبل أشد، تمكنت فيها الشعوبية من السيطرة على زمام الأمور في البلد، إلا أنه في كل مرة تعود المياه إلى سواقيها، ونتعافى على مر الصعاب والمحن.

سيأتي اليوم الذي تعلن فيه الشعوبية هزيمتها، وتجرعها لكأس السم بإذن الله الواحد الأحد. وإنا لغد منتظرون، وما هو على العاملين ببعيد.

 

 

اظهر المزيد

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى