مقالات

رسالة رمضان (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم أيها الصائمون!

ويا أبناء القادسية!

لفت نظري من سنين وأنا أقرأ في سورة الأعراف هذا التشابه اللطيف والعلاقة الموضوعية الشفيفة بين آيات الصيام في (سورة البقرة)، وبين قصة نبينا العظيم موسى عليه السلام في لقائه مع الله جل في علاه.

العناصر التي تتشكل منها فرضية الصيام وقصة اللقاء واحدة، لكنها هناك جاءت في سياق تشريع نظري، وهنا في صورة تطبيق عملي أسقطت عليه تلك العناصر فصنعت منه لوحة حية متحركة أخاذة في منتهى الروعة وغاية الجمال!

ثمة موعد بين عبد ضعيف مخلوق من تراب، ورب عظيم جليل سُبوح قُدوس. كيف يواجه هذا العبد ذلك الرب؟!!! لا بد من تطهر خاص يترقى به العبد ليصلح أن يواجه الرب، فكان الصيام هو آلة التطهر، ووسيلة الترقي، وعنصر الصلاح:

(وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (الأعراف:142). يقول ابن كثير: (فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة قال المفسرون فصامها موسى عليه السلام وطواها فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة فأمره الله تعالى أن يكمل بعشر أربعين). والظاهر أن العشر هذه لاستكمال التطهر إلى الدرجة التي تؤهله للقاء الموعود.

وهكذا كان.

وتم اللقاء، ولكن بين من و من؟ وحصل القرب، وسمع موسى كلام الرب: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) فاشتاق لرؤيته فـ(قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف:143).

وكانت الجائزة (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي)، الرسالة والكلام. (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ) لماذا؟ (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (الأعراف:144) هذه لموسى ، فما لقومه؟ الكتاب المسطور بالألواح يأخذون بأحسنه كما أمر نبيهم أن يأخذ ما آتاه: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) (الأعراف:145).

وتستمر الآيات لتعرض مشهداً آخر لميقات آخر، وفي هذه المرة يكون مع نبي الله موسى عليه السلام سبعون رجلاً من قومه يعتذرون عنهم لعبادتهم العجل. وفي أثناء القصة يذكر الله تعالى رحمته فيقول: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) للمتقين (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:156).

الآن أريد منكم أن تسقطوا هذه العناصر والمشاهد على تشريع الصيام الوارد في (سورة البقرة):

الصيام شهراً أو ثلاثين يوماً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183). وهناك: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً). مع ملاحظة أن الأصل ثلاثون، والعشر جاءت زيادة.

مشهد القرب: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة:186). لا بد هنا أن نستحضر معراج نبينا محمد وقربه من ربه جل في علاه، وتكليمه له: بم رجع من هناك؟ بالصلاة. لماذا؟ لاحظ قول النبي : (أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد في الصلاة، فأكثروا فيه الدعاء فإنه قمن أن يستجاب لكم). الصلاة هي الموعد وهي اللقاء وهي العروج إلى الحضرة القدسية!

الجائزة: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ). فشهر صيامنا هو شهر القرآن، ويقابله هناك الألواح.

التيسير لهذه الأمة: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، يقابله هناك: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف:157).

مشهد الشكر: (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة:185).

مشهد التقوى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183): (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ).

الزكاة: لا ينتهي رمضان إلا بزكاة الفطر التي هي فرض على كل الأمة فقيرها وغنيها في شهر الصيام، إلا من كان معدماً لا يجد قوت شهره.

مشهد الرحمة: يحضرني فيها ما كان يصنعه سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقد كان يجمع أهله عند الإفطار، ويدعو قائلاً: (اللهم يا من وسعت رحمته كل شيء! نحن شيء فلتسعنا رحمتك)! وفيه إشارة لمشهد موسى ولقائه بربه سبحانه وقوله له: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) (الأعراف:156). فإما كان سيدنا ابن عمر يقصدها، وإما كان قد أُلهِمَها من لدن حكيم حميد.

والسلام عليكم

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى