مقالات

مع سورة الكهف .. في طريق الرحلة الطويل (2)

من يصبر على من ؟!

كنت أشعر بالغبطة لهذه المعاني التي صارت تتداعى ويأخذ بعضها بعنق بعض، وسررت لما رأيت صديقي يرجع إليّ من إغفاءته، فصرت أحدثه في بعض ما عرض لي منها، وأناقشه، وأتبادل معه المعاني والأفكار.

ثم قادنا سياق الحديث إلى العدد وقيمته في ميزان الله جل وعلا، لاسيما إذا استحضرنا الظرف الذي نزلت فيه السورة من حيث الضعف والقلة والحصار المضروب حول الثلة المؤمنة مع قائدها ونبيها ، وكيف أن الله تعالى يوصي هذا القائد العظيم والنبي الكريم بالصبر معهم وعدم تركهم لقلتهم وضعفهم، وحاجتهم وفقرهم، وعطلهم من المَكِنة وكل أداة من أدوات الزينة:

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف:28).

اللافت للنظر أن الوصية هنا هي للقائد أن يصبر على أتباعه وقلتهم – وهي مسألة عظيمة بحيث يخاطب بها النبي نفسه – وليس للأتباع أن يصبروا على قلة وضعف إمكانيات قائدهم! وهذا ملحظ لطيف لأصحاب الدعوات في سيرهم وهم يقطعون المراحل باتجاه الهدف المرسوم. فقد وجدنا من البعض شعوراً بالمنة يطوقون به رقبة صاحبهم أن كانوا من أتباعه. وعلاج هذا الخلل أن لا يمنّ أحد على أحد:

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17).

الموقف وليس العدد

ثمة مشكلة اجتماعية خطيرة هي افتتان الكثير من الناس – خصوصاً في وقت الاستضعاف والأزمات – بالأرقام والأعداد والأحجام! لكن الله جل وعلا حين يذكر لنا أصحاب الكهف يبين لنا أن العدد ليس هو المهم، إنما المهم هو الموقف سواء صدر من فرد كمؤمن آل فرعون، أو مجموعة قليلة كأصحاب الكهف:

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) (الكهف:22).

نعم ليس المهم هو العدد: ثلاثة، خمسة، سبعة، واحد! فلا تمار في هذا ولا تجادل إلا بأقل قدر، ولا تسأل عن ذلك أحداً. وكتطبيق لهذا المقياس جاءت وصيته سبحانه بعد هذه الآية بقليل لرسوله بالصبر على القلة المؤمنة التي نهضت معه ولم يلتفتوا إلى زينة الحياة الدنيا:

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).

الغريب أن الله تعالى يؤكد على الموقف وإن صدر من فرد، ويبرزه ويمدحه ويمجده ويدعو إلى تمثله والاقتداء به، بل ويرفع من قيمته ولو صدر من حيوان: طيراً كان كالهدهد، أو حشرة كالنملة! وجمع المثلين في سورة سماها باسم تلك الحشرة!

وهل لاحظتم تكرر اقتران الكلب مع كل عدد يذكر؟ فالكلب إن كانوا ثلاثة فهو رابعهم، وإن كانوا خمسة فهو سادسهم، وإن كانوا سبعة فهو ثامنهم، فلو كانوا ألفاً أو أكثر هو معهم!!! إن كلباً تابعاً يحمي أهل القضية – مهما كان عددهم – خير من إنسان متبوع بالآلاف لا يعرف له هدفاً سامياً في هذه الدنيا.

يا لله!!!

ما أعظم هذا..! وما أعظم ديننا..! ما أعظم ربنا..!

ولكن الأغرب هو أنه مع كل هذا الإيضاح، وهذا الوضوح تخفى هذه القيمة على بعض المطموسين في بصيرتهم! ولله في خلقه شؤون! اللهم ثبتنا بفضلك ومنك وكرمك على الطريق القويم، ولا تفتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

لو كان القلب قادراً على أن يتناول القلم، فيكتب بنفسه ما عجزت اليد عن ترجمته!

أصول الفتنة وأنواعها

ويلتفت إليّ صاحبي لأناقشه في الأمثلة المضروبة في السورة لهذه المعاني العظيمة، وتساوقها مع المحور الأساسي للسورة، وهو الثبات على الحق، وعدم الافتتان عنه بأي صورة من الصور، أو سبب من الأسباب التي عادة ما يفتتن بها عامة الناس. فكان قوله تعالى عن صاحب الجنتين:

(وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) (الكهف:34)

ظاهراً من بين الآيات التي تناولها النقاش. هل لاحظتم أثر الافتتان بكثرة المال والرجال:

(أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً)!

وهل لاحظتم بأي شيء أجابه صاحبه وهو يناقشه ويحاوره وكيف ركز على قلة المال والولد لديه في مقابل ذلك، قائلاً له بكل ثقة واعتزاز، دون تأثر ولا تراجع ولا اهتزاز:

(وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً) (الكهف:39).

لقد نظر إلى العاقبة فلم يتأثر ولم يهتز ولا تراجع:

(فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) (الكهف:40).

وتجمع السورة أصول الفتنة وكيف يكون الثبات في مواجهتها:

الفتنة بقوة الباطل وانتشاره، وما لديه من أسباب الحياة وزينتها، وكيف واجهها أصحاب الكهف.

الفتنة بالمال والضياع والبساتين والأهل والولد، وكيف واجهها ذلك الرجل الفقير. وقد أخذه صاحب الجنتين ليريه ما هو فيه من قصور ومكاتب وآلات، وأبهة وهيبة وهيلمان، وحدائق وبساتين وجنان، فلم يلتفت إليه.

الفتنة بالعلم، وكيف واجهها نبي الله موسى .

الفتنة بالمنصب والتمكين في الأرض، وكيف واجهها ذو القرنين.

وكل أصل من هذه الأصول في حاجة إلى وِقفةٍ طويلة أتركها لأهل القرآن الذين يعرفون كيف يتدبرون القول وينتفعون بما فيه من معانٍ وإشارات وأسرار.

علاج الفتنة

وجماع علاج هذه الفتن جميعاً أمران:

الإخلاص في طلب وجه الله جل في علاه:

(فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ) (الكهف:110).

والنظر في العاقبة:

(هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً) (الكهف:44).

وإذا كان في مقابل هذه الزينة الزائلة:

(إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً) (الكهف:8،7) ذلك النعيم الخالد في الفردوس الأعلى:

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) (الكهف:108):

الزينة الظاهرة الزائفة في مقابل الفردوس! والصعيد الجرز الأجرد في مقابل النعيم الخالد! إذا كان ذلك كذلك فكيف تتطرق الفتنة إلى القلوب، ويتسلل الضعف إلى النفوس مهما كانت القلة وضعف المَكِنة؟! اللهم نسألك الثبات على الحق، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين يا الله!

روى الإمام البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: (إذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة “.

التوحيد

التوحيد – ملخصاً بالدعاء – كان حاضراً بشدة في هذه السياحة الإيمانية الممتعة. لقد كان الهوية التي شخصت أولئك القلة المؤمنة من أصحاب الكهف:

(إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (الكهف:14-16).

وكذلك القلة المؤمنة من أصحاب النبي :

(الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الكهف:28).

لاحظوا كيف أن التوحيد هو الذي حدد هويتهم: فأولئك هويتهم أنهم يدعون ربهم وحده لا شريك له، وهؤلاء – كذلك – هويتهم أنهم يدعون ربهم وحده لا شريك له.

وظل التوحيد يرفرف على السورة من أولها:

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) (الكهف:1)

(وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ) (الكهف:2)

(وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) (الكهف:4)…

إلى أن اختتمها جل وعلا بقوله:

(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف:110).

ومع كل هذه الحقائق تجد من يعرض ويفتن ويسلك الطريق العوج، ويدافع عما هو فيه من فتنة. إنها طبيعة الإنسان حين تتمرد عليه بعيداً عن الناحية التي فيها القرآن:

(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (الكهف:54).

صدقوني.. لم أقل شيئاً

وبعد….

أتحسبونني إلى الآن قلت شيئاً عن هذه السورة العظيمة؟ لا والله! بل ما قلت ما أريد قوله مما جال ويجول في خاطري عنها من معانٍ وأفكار. كيف لي بذلك؟ من أنا؟ وما أنا؟ وماذا يغني علمي إزاء علم الله الذي أنزله في كتابه؟!

(قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (الكهف:109).

هوتِ المشاعرُ والمداركُ عنْ معارجِ كبريائِكْ
يا حيُّ يا قيومُ قدْ بهرَ العقولَ سنا ضيائِكْ
أُثني عليكَ بما علمتُ فأينَ علمي منْ ثنائكِ

وجميعُ ما في الكونِ فانٍ مستمدٌّ من بقائِكْ
بل كلُّ ما فيهِ فقيرٌ مستميحٌ من عطائِكْ
ما في العوالمِ ذرةٌ في جنبِ أرضِكَ أو سمائِكْ
إلا ووجهتُها إليكَ بالافتقارِ إلى غَنائكْ

تسبحُ روحي بحمدِكْ
إلهي فهبْ لي ضياءً

أنا من أنا يا إلهي ؟!

ويلهجُ ثغري بذكرِكْ
ينيرُ فؤادي بحبِّكْ

سوى ذرةٍ فيْ رِحابِكْ

أزفُّ ابتهالاتِ روحي خَشوعاً ذليلاً ببابِكْ
أناديكَ أرجوكَ أبكي وأهوى رفيفَ ضيائِكْ
إلهيَ فاغمـرْ فـؤادي
فإني وهبتُكَ روحــي
ولم أخشَ غيرَ عذابِـكْ
  بلطفِـكَ أو بحنانِـــكْ
وإنْ تكُ بعضَ عطائِـكْ
ولم أهوَ غيرَ جمالِــكْ

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى