مقالات

طارق الهاشمي .. ونقض قانون الانتخابات

72673

خطف الأساذ طارق الهاشمي أضواء الإعلام في الأيام القليلة الماضية، عندما أصر على موقفه في ممارسة حقه الدستوري كنائب لرئيس الجمهورية في نقض فقرة قانون الانتخاب المتعلقة بالنسبة المخصصة للمهجرين (غالبهم سنة) من مقاعد مجلس النواب القادم. وقد تخللت العملية مساجلات بينه وبين أعضاء كثيرين في مجلس النواب يأتي في مقدمتهم مجموعة التيار الصدري وبدر والدعوة، وحتى الحزب الإسلامي الذي اصطف ضده هذه المرة، ربما بسبب خروجه من الحزب الذي كان أميناً عاماً له إلى ما قبل شهور قليلة. عقب مجلس النواب على نقض الهاشمي بنقض آخر، وأحيل الموضوع إلى المحكمة الاتحادية، واشتد الكلام والاتهام المتبادل. لكن الهاشمي ظل مصراً على موقفه إلى لحظة كتابة هذه السطور. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا الإصرار أو الثبات على الموقف هذه المرة؟

أرى أن ثمة أموراً ثلاثة ينبغي أن تؤخذ بالحسبان لمعرفة الجواب:

1. الفترة التي نمر بها الآن هي فترة انتخابية حاسمة، فنحن على أبواب انتخابات نيابية تتنافس فيها الأحزاب والكتل والأشخاص على كسب أكبر عدد من أصوات الشعب. والسياسي الذكي هو من يبذل قصارى جهده في هذه الفترة الحرجة لقلب المعادلة لصالحه. إنها أشبه بالأيام والساعات الأخيرة للطالب قبل الامتحان. ولرب موقف واحد يجلب الأنظار ويستحوذ على الاهتمام يغير مجرى المزاج الشعبي لصالح المرشح أو ضده. فما يفعله الهاشمي هو بمثابة (ضربة المعلم) التي جاءت في وقتها خدمة لمشروعه الانتخابي. إنه بموقفه هذا يبدو أنه يدافع عن حقوق المهمشين، الذين هم من طائفته التي ينتسب إليها، والتي على أبنائها يكون رهانه في سبيل الفوز المنشود، وهذا سيكسبه تعاطفاً من جماهيرها يزيد في كمية الأصوات الداخلة في صندوقه يوم الانتخاب. على أنني لا أستبعد تراجعه في آخر المطاف كما عودنا على ذلك؛ وعندها ستكون الخسارة مضاعفة.

2. شخصية الهاشمي فيها نزوع إلى الاستقلالية وإثبات الذات، ولديه نسبة لا بأس بها من الاستعداد للمشاكسة وخلاف الآخرين، وليس هو من النوع الذي يحمتل الإملاءات، ويتقبل الإذعان إلى آخر الخط. وهذه إحدى مشاكله مع الحزب الإسلامي. لكنه كان من قبل مقيداً بما يمكن أن نسميه (حاكمية المجموع أو حاكمية الحزب)، وكان، إضافة إليه، يستمد قوته من هذا الحزب. أما وقد خرج من الحزب؛ فقد تخلص من ذلك القيد أولاً، وفقد هذا الإسناد ثانياً، وهذا قيد آخر تخلص منه؛ فلم يبق أمامه من سند إلا الجمهور الذي ينتمي إليه. فإن أراد كسب صوته فعليه أن يسعى في مرضاته؛ عسى أن يحقق له هذا الجمهور ما يريده منه في الانتخابات القادمة.

3. أضف إلى ذلك أن الرجل ينتمي لأهل السنة؛ فهو يملك، بطبيعة الحال، نزوعاً داخلياً للوقوف إلى جانبهم، وميلاً تلقائياً لهم، يسوقه للدفاع عنهم، ومحاولة إنصافهم، وتحصيل ما أمكنه من المهدور من حقوقهم.

وهنا قد يقول قائل:

أليس الهاشمي هو من مرر الدستور، وهو في غير صالح أهل السنة؟

أليس هو من وقع على تزكية حكومة المالكي قبل حسم الوزارات السيادية الأمنية بما ينصف السنة؟

أليس هو الذي وافق ووقع على الاتفاقية الأمنية التي رهنت العراق لأمريكا دون مقابل، والمتضرر الأكبر منها هم السنة؟

أليس هو الذي جلس عند حسين الصدر في آذار 2008 جلسة لا تليق به ولا بمنصبه، نقلت في الفضائيات، ظهر فيها ذلك الصعلوك يتوسط ويتصدر المجلس وحده على كرسي منعزلاً عن بقية الجالسين كأنه إمبراطور، بينما جلس نائب الرئيس العراقي (الهاشمي) هو ومن معه من الوفد جميعهم على (قنفة) واحدة ازدحموا فيها على مسافة فاصلة عن يمين الإمبراطور كأنهم تلاميذ، يقابلهم مجموعة من أتباعه المعممين المغمورين جلسوا الجلسة نفسها؟ فما عدا مما بدا؟

وأقول: بلى وبلى. ولكن هذا كله لا يعدمه أصل الأمر أو الميل والحب والهم. ثم الناس يتفاوتون بعد ذلك في مستوى هذا الأصل وحجمه في نفوسهم، والمدى الذي يبلغونه في أداء الاستحقاق العملي الذي يفرضه هذا الأصل على المواقف والتصرفات والالتزامات. وذلك كتفاوت الناس في قوة الإيمان ودرجاته ومستوياته. المسلمون كلهم يملكون أصل الإيمان وبذلك كانوا مسلمين، ثم بعد ذلك يختلفون في مراتب هذا الإيمان. فمنهم من يبلغ فيه الدرجات العليا، ومنهم من هو في المرتبة الأدنى: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) (فاطر:32).

كل الناس يحبون وطنهم ودينهم وقيمهم الأخرى. لا يمكنني أن أنفي عن أحد أصل هذا الحب من نفوسهم إلا بدليل يقيني. ولكن.. من الناس من يصحبه هذا الحب إلى كيس المال ثم يتركه عنده، ومنهم من لا يهزه بريق الدراهم ولا رائحة الأوراق، فإذا عرض عليه شيء من ذلك صمد وأبى، لكنه ربما أصابه الضعف وانتابه الخور لدى كعب المرأة! ومنهم طائفة قادرة على تجاوز هذا وهذا، لكن أحدهم لا يملك إلا أن يهتز عند رؤيته حافة الكرسي! ومنهم من يعبر هذه الحواجز كلها، لكنه مبتلى بالتعصب لحزبه أو لعشيرته أو لشيخه، أو حبه لولده وزوجه، فما دامت المساومة لم تصل إلى واحدة مما ذكرت مما هو مفتون به فهو ملتزم بمقتضيات الحب والانتساب… وهكذا. فالناس مراتب ودرجات في تمثل القيم. وهم صادقون فيما يدّعون من أصل ذلك، لكنهم قد يفشلون عند الامتحان بمفردة من المفردات التي ذكرناها آنفاً، أو جميعها؛ فهو مؤمن ما لم يفتن بالمساومة عليها. والمؤمن الحقيقي هو من يسعده الله تعالى بالثبات أمام المغريات، والنجاح في جميع الامتحانات، والصبر على شتى الابتلاءات. مثله في ذلك كمثل أبيه إبراهيم عليه السلام الذي قال تعالى عنه: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) (البقرة:124). فالكلمات هي الأوامر والاختبارات والابتلاءات والعقبات التي يمكن أن تقف حائلاً بين المدعي وإثبات دعواه. والمؤمن الحقيقي من اجتاز هذه الحواجز جميعاً، تصديقاً لما ادعى، والتزاماً بما آمن. وذلك هو الوفاء الذي قال الله عنه: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم:37). ولكن ما كل الناس كإبراهيم. أكثر الناس يريد ويتمنى أن ينفع أهله وطائفته وقومه، ولكن ليس على حساب بعض المتعلقات الذاتية من مال وتجارة أو منصب أو جاه أو إغراء أو حزب أو عشيرة، أو غير ذلك. وفي ذلك يقول سبحانه: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24).

اجتمعت هذه الأمور الثلاثة وعمل بعضها على تقوية بعض فكانت النتيجة أن خرج طارق الهاشمي بهذا الموقف، الذي ربما أشكل على بعض المتابعين فهمه، أو إيجاد التفسير المناسب له، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، ونهاية المآل.

اللهم ثبتنا ولا تفتنا، وأعنا ولا تخذلنا، وعافنا واعف عنا برحمتك يا أرحم الرارحمين.

 

 

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى