مقالات

الأمة النائمة

 

4489527-6739087

عدت للتو من صلاة الجمعة. وها أنا ألجأ إلى أزرار الحاسوب أبثه بعض شجوني.

ونحن متجهون إلى المسجد قال لي ولدي وقد أخذ ينحرف في سيره إلى المسجد القريب: إلى أين؟ قلت له: سأصلي في أبعد مسجد في حينا. نظر إلي وفي عيونه سؤال: لماذا؟ أريد أن أعمل دراسة عن الموضوعات التي سيطرحها الخطباء اليوم: هل لها مساس ولو من بعيد بآخر كارثة كشف النقاب عنها حلت بالعراقيين؟ قال: إذن لن تجد أحداً. إنهم يتحدثون عن غزة. أما العراق فكأنه ليس من الأمة، ولا ساكنوه من البشر.

وافترقنا: هو إلى المسجد القريب، وأنا وابني الصغير (عمر) إلى المسجد البعيد، وبيننا وبينه ثلاثة مساجد. وكانت مكبرات الصوت قد باشرت بنقل أول كلمات الخطب.

أما المسجد الأول (وخطيبه من الإخوان) فسمعته يتكلم عن الاتباع وتطبيق القوانين الإسلامية، وكان مما قاله: “الأُخوة لا تتكامل إلا بتطبيق قانون الله”. ولا أدري هل من قانون الله، ومن الأخوة السكوت عن مصاب بهذا الحجم فلا يذكر بشيء؟!

المسجد الثاني: كان موضوعه عن محرمات الطعام والشراب والمعاملات.

المسجد الثالث (وصاحبه – كما يبدو من مظهره – سلفي): كان يصيح بأعلى صوته، وتتهدج نبرته وهو يصرخ منكراً على الكاسيات العاريات. قلت: أما جاءك خبر الكساة الذين يُعرَّون في سجون ومعتقلات العراق، ليغتصبوا من قبل حراسهم وسجانيهم؟! هل بقيت قناة فضائية لم تنقل أخبارهم؟ فأين أنتم منهم؟! وكنت قد صليت من قبل عند هذا الخطيب مرات عديدة، لا يكاد يدع الحديث عن أحوال أهل غزة والبكاء عليهم في خطبة من خطبه! بالله عليكم لو تناقلت وكالات الأنباء خبراً عن رجل واحد من غزة اغتصب – لا سمح الله – في سجن يهودي أو حكومي: ماذا سيكون موقف هذا الخطيب وغيره من الخطباء على امتداد الأفق العريض من بلاد المسلمين؟ أفاغتصاب أرخص من اغتصاب؟ وعرض أغلى من عرض؟ ودم يفرق عن دم، ومسلم في طبقة غير الطبقة التي عليها مسلم آخر؟! لست في صدد الاعتراض على الحديث عن مصاب إخواننا في غزة.. أبداً. إنما اعتراضي على المفارقة الواقعة: صراخ في جانب، وصمت في جانب آخر هو أحق بالصراخ والنكير والإنكار! لقد حولت الأمة – بجهلها – فلسطين إلى (ثقب أسود) يلتهم ما يتسرب من طاقتها وجهدها وفكرها واهتمامها، فلا يدع شيئاً منه يفلت إلى سواها من بلاد المسلمين!

المسجد الرابع: كان الخطيب يتحدث فيه عن الغيبة وتتبع عورات المسلمين. لكنه لم يتحدث عمن تنتهك عورته، وتهان إنسانيته، وتمسخ بشريته، ناهيك عن القيود والتعذيب والعذاب! أيهما – بربك – أحق بالحديث؟

وأخيراً دخلت المسجد الخامس واسمه (مسجد ابن تيمية) فوجدته يكتظ بالمصلين، وكان الخطيب (وهو سلفي) يتكلم عن الشفاعة وشروطها، والشفاعة الشرعية والشفاعة البدعية. ولم يأت على ذكر العراق، حتى ولا في الدعاء!

وتذكرت شيخ الإسلام، وقلت: لو كان ابن تيمية حياً أكان يلقي مثل هذا الكلام البارد في مثل هذا الجو الحار؟! أكان يسكت عن ذكر إخوانه العراقيين في مثل هذه المصيبة؟

لا والله!

وأطلقت آهة، وجررت حسرة وأنا أقول:

أما الخيامُ فإنها كخيامِهم وأرى نساء الحيِّ غيرَ نسائِها

فلكم الله يا أهل العراق! لكم الله؛ كأنكم لستم من هذه الأمة! إن أبناءها عنكم لفي شغل، وآذانهم لفي صمم، وعيونهم في عمى!

كأنّ بغدادَ لا تعنيهمو أبداً
ولا العراقُ ولا منهم أهاليها

كأنّ بغدادَ ما كانتْ أوائلُها
ولا أواخرُها عوناً لمُقويها

كأنها لم تكنْ قطبَ الوجودِ ولا
يوماً بها دارتِ الأفلاكُ تنويها

كأنها لم تكنْ غيثاً سحابتُهُ
كانَ الرشيدُ إذا مرّتْ يناجيها

“لا تُمطري ههنا أو أمطري إنما
خيراتكِ حيثُما حلتْ سنَجبيها”

حالَ الزمانُ وما زالتْ عوارفُها
آناً فآناً إلى الراجينَ تؤتيها

واللهِ ما نسيتْ أسوانَ في عدةٍ
ولا جنينَ وقد عادتْ عواديها

لنا لبغدادَ للفرسانِ صائلةً
فيها شواخصُ تَروي عزَّ ماضيها

واسألْ بغزةَ عن بغدادَ كيفَ قضتْ
رغمَ النوائبِ إلا أن تواسيها

قامتْ على جُرحها تمشي مكابرةً
كيما توفّي عهوداً قلَّ مُوفيها

بغدادُ ! ما أنتِ ؟ ما هذا الشموخُ ؟ وما
سرُّ العطاءِ وقد جفَّتْ سواقيها

وخانكِ القومُ والأيامُ مدبرةٌ
وما دروا أننا يوماً سنلويها

بلى ستشرقُ أقماري وإن غرُبتْ
وتنجلي غمةٌ كنا نُقاسيها

ويُظْهِرُ الموجُ عندَ الفجرِ أشرعتي
يوماً وإن بعِدتْ عنا مراسيها

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى