مقالات

قصص من واقع العراق الجديد…. (2)

سيد رستم

أحزنني المشهد السابق؛ لقد بات يمثل ظاهرة من ظواهر البلد التي استشرت بعد الاحتلال! وليس حالة خاصة أو عابرة. كان الهم والحزن بادٍ على محياي، يلمحه كثير من الأقارب والأصدقاء، وكان لي زميل في العمل شيعي فسألني: علي! ما رأيتك مهموماً حزيناً كما أراك الآن إلا يوم سقوط النظام! فهل سقط النظام مرة أخرى؟ يومها ظننتك أحد أعضاء حزب البعث؛ فسألت الزملاء عنك فقالوا: لا، ولكنه حزين لدخول الأمريكان للبلاد محررين! قلت له: إن احتلال العراق أمرعلى الغيارى عظيم! ولكن ما هو أعظم أن يتحكم فينا سقطة الناس وسفلتهم. وقصصت عليه القصة. وما إن انتهيت حتى ضحك ضحكة مدوية!

قلت: أفي القصة ما يدعو للضحك؟ ظننتك ستتألم لسماعها.

قال: ألهذا أنت حزين ومهموم؟

قلت: نعم.

قال: لقد حصل معي يا علي ما هو أعجب وأغرب من قصتك.

قلت له: كيف ذلك؟

فقال: اسمع مني. وبدأ يروي قصته:

هل تعلم بأنني رجل مدمن على عمل الفواحش ما ظهر منها وما بط؟. لقد كنت أسهر أنا وصديقي ميرزا كل يوم تقريباً في بيت زنوبة. كان لديها (قواد) اسمه (رستم)، وظيفته أنه يأتي لنا بالغانيات والخمور وكل ما نحتاجه، فنعطيه المال لقاء خدمته لنا. كان أبيض البشرة، وإذا شرب الويسكي احمر وجهه.

بعد سقوط النظام قال لنا الأصدقاء: هذه أفواج الشباب بدأت تتوجه إلى كربلاء مشياً على الأقدام لتعلن توبتها وبيعتها في أربعينية الحسين. في اليوم التالي قررت أنا وصاحبي ميرزا الذهاب إلى كربلاء مشياً على الأقدام وإعلان توبتنا أمام الحسين. وبدأنا مشوار المسير الطويل. كانت المواكب الحسينية على طول الطريق معدة لاستقبال الزوار وإمدادهم بالطعام والشراب والخدمات الطبية، كانت اليد الإيرانية واضحة الأثر، حتى إنك تجد بعض المواكب قد رفعت صور الخميني في مقدمتها!

وصلنا إلى مشارف كربلاء حيث السيطرة الرئيسة لمدخل المدينة، فرأينا موكباً كبيراً ما رأيت مثله! فيه الكثير من الطعام والشراب. والشباب يزدحمون على خدمة الزوار. كان في الموكب (سيد) معمم يذهب إليه الزوار ليقبلوا يده ويتبركوا بها. ويجيب على أسئلتهم. ولافتة كبيرة مرفوعة مكتوب عليها (موكب شباب الحسين يرحبون بزوار الحسين). استقبلنا شباب الموكب ورحبوا بنا. كانت آثار التعب والجوع بادية على وجوهنا، فقلت لصاحبي: لنستريح قليلاً ونأكل ما تيسر من هذا الطعام والشراب.

قال لي: لنذهب أولاً إلى السيد ونقبل يده ونتبرك به.

قلت له: إني لا أحب تقبيل الأيدي، حتى لو كانت يد أبي. فذهب وحده، وانشغلت بإعداد الطعام. لم يمضِ وقت طويل حتى أقبل صاحبي مسرعاً مندهشاً.

قال لي: اترك الطعام وقم كي تسلم على السيد.

قلت له: ألم أقل لك لا أحب تقبيل الأيدي.

قال: أرجوك، أرجوك قم وانظر إلى السيد، انظر فقط لتعرف من يكون؟!

لم يمهلني حتى سحبني بقوة، قلت له: أمجنون أنت؟ أترك الطعام الذي هو عندي أفضل من السيد وأبيه، وأنا جائع لكي انظر إليه فقط!

قال: لا تعجل علي، اصبر وستفاجأ من يكون السيد هذا؟!

سمعت أحد الزوار قبل أن أدخل يقول: ما شاء الله! السيد وجهه نوراني! تقدمت خطوات، وكانت المفاجأة! من تظن وجدنا يا علي العراقي؟؟

قلت: لم أكن معكم حتى أعرف من يكون.

فصاح بأعلى صوته: لقد وجدنا القواد رستم! رستم نفسه هو السيد المعمم! فلما رآنا تشاغل عنا، وقام ليتوارى خلف الموكب، لكننا لم نمهله حتى لحقنا به وأمسكناه على انفراد.

قلنا له: رستم! منذ متى وأنت على هذه الحال؟ أما توبتك فلا تعنينا، وأما العمامة السوداء ودرجة العلم فمن أين أتيت بها؟ وأما وجهك المحمر فهذا يعني حتماً أنك شربت الويسكي قبل قليل.

فما كان جوابه إلا أن قال: اسمعوا إن أردتم أن تكونوا من تلاميذي وأتباعي وخداماً للحسين فأهلا وسهلاً بكم، مغفورة لكم كل الذنوب والخطايا. أما أنكما تريدان فضحي أمام الناس فلا والله، وأقسم بالخيام التي أحرقت يوم عاشوراء سأدعو أتباعي وأقول لهم: إن هؤلاء وهابية جاءوا ليفجروا الأمام وسيقطعونكم إرباً إرباً، إنهم ينتظرون مني إشارة فقط. وفي هذه الأثناء بدأ أتباعه يتجمعون حولنا. فما كان من صاحبي إلا أن يقول له:

سيدي ومولاي! عظم الله أجرك بمصاب جدك الحسين (ع) وقبل يده ومضى. فلم يكن أمامي إلا أن أحذو حذوه، وأفعل فعله! وأنا ألعن اليوم الذي ولدت فيه؛ كيف قبلت يد رستم قواد الأمس، وسيد اليوم! أنا الذي لم اقبل يد والدي قط!

قلت لصاحبي: لقد قررت العودة إلى البيت، لن أتوب ولن أزور؛ كفرت بالدين الذي سادته رستم القواد وأمثاله.

عدنا إلى مدينتنا، فاستقبلنا الأصدقاء يهنئوننا بالزيارة والتوبة.

والآن يا علي العراقي أيهما تستحق الحزن أكثر: قصتك أم قصتي؟

قلت له: لا حزن بعد اليوم؛ إنما هو العمل. لا بد من فضح أهل الباطل جميعاً.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى