مقالات

من فضائل .. الصدّيقة بنت الصديق (2)

أُم المؤمنين

news_1A2DF927-347A-47B4-8F81-E60AFE366DF0_1314047304

يكفي الصديقة عائشة (رضي الله عنها) فضلاً قول الله جل وعلا فيها وفي بقية أزواج نبيه (صلى الله عليه وسلم):

(النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (الأحزاب:6).

وأنت إذا تمعنت في الأمر وجدت في بيت النبي الطاهر: النبي (وهو الأب)، وزوجاته (وهن الأمهات). فأين الأبناء؟ وأمهات من أولئك النسوة الفضليات زوجات النبي ( صلى الله عليه وسلم )؟ والجواب في الآية آنفة الذكر واضح لا يحتاج إلى تمعن أو تفكير. إنهم المؤمنون، وأولهم المهاجرون والأنصار (وهم لبعضهم إخوة)، ثم ذريات المؤمنين جميعاً، (وهم إخوتهم) كما قال تعالى: في سورة (الحشر) بعد ذكر المهاجرين والأنصار:

(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10).

ثم أعقبه بما يفيد حتماً بأن من لم يكن أخاً للمهاجرين والأنصار فإنه أخو اليهود والنصارى فقال سبحانه:

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (الحشر:11).

فإذا كان الذي يتنصل من إخوة الصحابة أخاً للكافرين، فالذي يتنصل من بنوة أُمهات المؤمنين لن يكون له برسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلة البتة، بل هو ابن للخنا والزنا، وهو أخ للكلاب والخنازير آكلة الجيف والنتن، وحاشى لله أن يدنو مثل هذا الآكل من عَذّرته المتلطخ بنجاسته، من ذلك البيت الطاهر، وإنما هو إلى بيت النار وأهله نسبته، وإلى النار – ولا شك – مآله ومستقره، وبئس المصير. ولو كان الشيعة أهلاً لكرامة الله سبحانه لما طعنوا بزوجات النبي الكريم. لقد أبعدهم الله لقذرهم ونجسهم وسوئهم ودنسهم فلم تكن أمهات المؤمنين أمهات لهم، ولو كانوا مؤمنين لما حرموا هذه المرتبة الشريفة. وكيف يمكن سلكهم في مسلك أبناء أمهات المؤمنين وهم يرجمونهن بما (تكاد السموات يتفطرن منه وتخرالجبال هداً)! وهل يطعن بأُمه إلا سافل مدخول النسب؟ فلعنة الله والملئكة والناس أجمعين على كل طاعن بزوجة للنبي الأكرم ( صلى الله عليه وسلم )، ولعن الله من لم يلعنه.

سيدة نساء العالمين

لقد اختار الله تعالى نبينا فجعله خير الأنبياء. ثم اختار له خير الأشياء: فكان نسبه خير الأنساب، وأمته خير الأمم، ودينه خير الأديان، وخير الكتب وخير الأزمنة وخير الأمكنة وخير المساجد وخير الأصحاب وخير الأزواج. فهو خير من خير مع خير. فكل من كان قريباً منه كان له نصيب من تلك الخيرية، كل بحسبه درجة ومنزلة. ولأنه ( صلى الله عليه وسلم ) اختاره الله تعالى قدوة للعالمين أجمعين، فبيته خير البيوت ولا بد، وأزواجه خير الأزواج، وإلا كيف يقتدى به إن لم يكن كذلك؟ وبأي بيت تتشبه بيوتنا؟ وبأي الأمهات تقتدي أمهاتنا وبأي الزوجات، وأي النساء؟ يقول الله تعالى:

(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (الأحزاب:32).

فما اجتمع في بيت من البيوت نساء خير من (نساء النبي) بنص القرآن: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ). وكانت عائشة من خيرهن، بل خيرهن فضلاً؛ فما من زوجة من أزواج رسول الله انتفعت بها الأمة بعد خديجة ( رضي الله عنها ) كما انتفعت بعائشة؛ لقد روت للأمة سُنة رسول الله وأحاديثه ( صلى الله عليه وسلم )، كما روت للأجيال أحكام دينهم، وأدب نبيهم وأحواله في بيته – وخارجه أيضاً – قولاً وفعلاً حتى قال الحاكم في (مستدركه): (لقد أُخذ عن عائشة ربع أحكام الدين)!

وإذا كانت نساء النبي خيرة نساء أهل الأرض، وعائشة وخديجة على رأس هذه النخبة الخيرة من النساء، فهما سيدتا نساء العالمين. وفي أفضلية أُمنا عائشة يروي البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء: إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام).

قال ابن منظور في (لسان العرب): قيل: لم يُرد عين الثريد، وإِنما أَراد الطعام المتخذ من اللحم والثَّريِد معاً لأَن الثريد غالباً لا يكون إِلاَّ من لحم. إ.هـ. فالثريد هو الخبز باللحم. والطعام نوعان: نبات ولحم. وخير ما اتخذ من النبات الخبز، ولا يتم الطعام عادة ولا يلذ إلا به. واللحم هو اللحم. فالخبز مع اللحم أفضل الطعام. فتفضيل عائشة على النساء تفضيل مطلق كتفضيل الثريد على غيره من سائر الطعام.

أحب الناس إلى خير الناس

من أعظم فضائل أُمنا عائشة (رضي الله عنها) أنها أحب الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأقربهم إلى قلبه حناناً ومودة ورقة ولطفاً. وذلك ثابت من قول النبي وفعله. فقد روى الإمامان الجليلان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: (عائشة). فقلت: من الرجال؟ فقال: (أبوها). قلت: ثم من؟ قال: (عمر بن الخطاب). فعد رجالا.

هل انتبهت إلى هذا الجواب الذي صدر من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كيف صدر بداهة لا تفكراً؟! وهذا أقوى في الدلالة؛ لأنه صادر من أعماق النفس، ومن باطن الذهن. أو من (العقل الباطن) كما يسمى في (علم النفس) الحديث. إن الأمور إذا كانت كذلك فهذا معناه أنها استقرت في النفس فصارت جزءاً لا يتجزأ منها، فإذا عبر صاحبها عنها دون عوائق من خوف أو خجل أو حياء فلا يظهر منه سواها. لا سيما إذا جاء التعبير بالفجَأة والبداهة. ولذلك يقع بعض المتكلمين في الخطأ في هذه الحالة حين يظهر على فلتات لسانه ما لا يريده من مكنون فؤاده وخبيئة نفسه. فما بالك برسول الله الصادق المصدوق ماذا سيكون منه بداهة أو تفكراً؟

ثم انظر إلى مدى حب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأُمنا عائشة وتعلقه بها من خلال هذه الحادثة لما جاء الأمر الإلهي بتخيير النبي لأزواجه بينه وبين الحياة الدنيا. إذ روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت:

أتاني نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إني سأعرض عليك أمراً فلا تعجلي حتى تشاوري أبويك) فقلت: وما هذا الأمر؟ قالت: فتلا عليّ: “يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً” قالت: فقلت: وفي ذلك تأمرني أن أشاور أبوي؟ بل أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قالت: فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأعجبه.

ألا ترى إلى خشية النبي من عجلة حِبه، فلم يمتحنها حتى لقنها الإجابة ولو بالإشارة! واحتاط اكثر فأمرها أن تشاور أبويها ليضمن المراد؛ لأن أبويها – ولا شك – سيأمرانها بما يسر قلب نبي الله ( صلى الله عليه وسلم )؟!

لقد نجحت نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الاختبار والاختيار، فأنزل سبحانه فيهن قوله الشريف على رغم أنوف الشانئين:

(لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) (الأحزاب:52).

وهذا مرسوم إلهي بحرمة طلاق النبي لأي واحدة من نسائه، فهن أزواجه في الدنيا والآخرة، وزاد على ذلك فحرم عليه الزواج عليهن بأُخرى. وبهذا ثبتت لهن التقوى المذكورة في قوله تعالى في السورة نفسها والسياق نفسه:

(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) (الأحزاب:32).

فلولا التقوى ما كان ذلك الحكم الإلهي. وأنى يكون!

والشواهد الصادقة على هذا الحب الرباني الذي عقد بين قلب النبي وقلب عائشة كثيرة، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) كثيراً ما يعبر لها عن هذا الحب أسمى تعبير وأرقه وأرقاه وأحلاه. وكانت ( رضي الله عنها ) – كأي امرأة يستهويها مدح زوجها لها – تتحين الفرص لتثيره كي يعبر لها عن ذلك الحب الراقي.

تسأله يوما فتقول: يا رسول الله كيف حبك لي؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: (مثل العقدة في الحبل). فكانت رضي الله عنها كثيراً ما تسأله كيف حال العقدة؟ فيجيبها: (هي على حالها).

وانظروا إلى ما يرويه الإمام أحمد في مسنده عن عائشة قالت: كنت أكون حائضاً فآخذ العرق فأتعرقه وأنا حائض فأناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيَّ، وأشرب وأنا حائض فأناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيَّ.

هل يحب رسول الله المسدد بتسديد الله امرأة هذا الحب العجيب لولا أنها تستحقه، وأنها أهل له؟ ألا فليخسأ الخاسئون، وليدُر بين مراثهم ومعتلفهم الشانئون‏.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى