مقالات

تأملات فكرية .. في رحلة روحية

show

هل هي رحلة روحية فقط؟ أم جعلت ليكون للفكر فيها نصيب أيضاً؟

وهل الإنسان روح محلق فقط لنقتصر على هذا الجانب الرائع، أم هو – مع ذلك – فكر مدقق، بل قلب متحرق يتموج بالشعور ويفيض بالعاطفة، وجسد يتشرب الروح، ويعتمل فيه الفكر؟

كثيرة هي مرابع التأمل، ومراتع التفكر في رحلة الحج إلى بيت الله الحرام.

تجدها في تضاريس الأرض، وتحسها في عبقات الجو، وتراها في وجوه الناس، وتتلمسها في أعماق النفس. عبر وفكر، وفوائد وفرائد تصلح لمراجعة أسس بناء حياة، وإعادة تأسيس دولة.

لفت نظري ضحى اليوم – وأنا ذاهب لرمي جمرة العقبة – أن مهام الخدمات أوكلت لرجال ليسوا من مواطني الدولة وإن كانوا مسلمين، أما الوظائف الحساسة، وتلك التي لها زمام القيادة فلا تسلم إلا لمن هو سعودي صليبة. ولا يكفي فيها الإسلام وحده.

قلت لنفسي: لماذا؟ وهل هذا صحيح؟ فأجبت: نعم صحيح؛ لأنه لو تسلم وظائف القيادة أناس من غير البلد فذلك مدعاة لأنواع من الشرور، وفساد الأمور لا تحصى، ولسنا في صدد الخوض في تفاصيلها، ولا أحسب بعضها يخفى على أحد.

المساواة أم العدل ؟

ما من شك في أن الناظر إلى هذا المشهد بادي الرأي يتوهم خللاً في مبدأ المساواة. ولكن من قال إن المساواة تستلزم العدل دائماً، فنحتاج إلى السؤال: هل الأصل في ميزان الحياة: العدل أم المساواة؟ هل يصح أن نعطي المدير والفراّش الراتب نفسه؟ كلا. لكن هذه مساواة، فأين الخلل؟ انظر تر المساواة هنا قد أزاحت العدل، ولن تجد معادلة خالية من العدل إلا وكانت مختلة، ولا محتوية عليه إلا متزنة. إذن المساواة التي لاتحقق العدل خدعة باطلة. وهنا نصل إلى الجواب على السؤال الأول عن الأصل في ميزان الحياة.

احذروا الكلمات البراقة فقد يكون في طياتها السم الزعاف.

وحتى تتعرف إلى أن توظيف الأجنبي في تلك الوظائف ينافي الحق والعدل، وإن حقـق المساواة، تحتاج إلى التعرف على طبيعة الأمر موضوع النقاش. فمن أعظم آفات المعرفة الجهل بطبيعة الأمور.

عبرت – وأنا ما زلت أغذ السير في طريقي الطويل من مقري بجوار مسجد الخيف في منى باتجاه الجمرة الكبرى – من الحاضر إلى الماضي، وكم أحدث التمسك بمبدأ المساواة على حساب مبدأ العدل من مفاسد وحروب ظالمة.. مقتل سيدنا عثمان رضي الله عنه أحد الأمثلة البارزة، حين استهوى هذا المبدأ البراق الرعاع، واستغله الموتورون. ولما أراد سيدنا علي رضي الله عنه سياسة الناس بالمساواة بينهم في العطاء لم يحصل الاستقرار، بل الذي حصل أنه قتل؛ لأن السبب علة في النفس لا فجوة في الفكر.

عروبة الدولة الأموية

تبادر خلال ذلك إلى ذهني التهمة التي تثار حول الدولة الأموية من حيث أنها فرقت بين العرب والموالي في الوظائف. هل علمتم الآن من أين مثار الشبهة إن نظرنا إلى الموضوع سالماً من المقاصد؟ إنه من بريق مبدأ المساواة كيف يتهافت عليه فراش العقول. وتحتاج القناعة التفصيلية إلى تطبيق مبدأ (معرفة طبيعة الأمور) على الحالة. ولكن أقول شيئاً مختصراً: انظروا هل دمر الدولة العباسية إلا المساواة بين العرب والموالي؟ لما أرادوا الوفاء بما رفعوه من شعار خداع خطير ضد الدولة الأموية فاستحدثوا بمقتضاه عقدة (الخليفة العباسي والوزير الفارسي)، أو ساقتهم الأحداث سوقاً إلى ذلك. وهكذا فتحوا على أنفسهم أبواق الفتن وطبول المؤامرات، حتى انتهت تلك الدولة العظيمة تلك النهاية المأساوية البائسة!

هل أدركنا الآن لم كان الفاروق رضي الله عنه ينهى عن استقدام الموالي إلى عاصمة الدولة الناشئة؟ ولم كان يتضايق من زواج بعض الصحابة بالكتابيات دون المسلمات؟ ولم كان بعض علماء التابعين – كما يذكر الإمام الشاطبي في الاعتصام – يتمعر وجهه حين يرى الرعاع في حلقات العلم. وإذا كان الإسلام قد أرسى مبدأ المساواة في أصل الخلق والحق، أفمعنى هذا أن نهمل التحوط ومنهجة الأمر حفظاً لمبدأ العدل، ومنعاً لتسلل اللصوص إلى حرم النصوص؟

فرصة لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة

أيها القوم!

إذا قيل : فقدنا كل شيء فهذه فرصة لإعادة البناء على أسس جديدة ، مستفيدين من عبر التاريخ وأحداث الزمن وعادياته.

تأسست دولة العراق الحديثة – كأي دولة أُخرى – على مبدأ المواطنة عام 1921، وهو كمبدأ المساواة سواء بسواء حين لا يراعى فيه مبدأ العدل. فلما لم يتوقف المؤسسون في الفروقات الجذرية بين مكونات الشعب العراقي، تحول مبدأ المواطنة إلى خنجر مزق الدولة نفسها.

لا أقصد بعدم التساوي: أصل الخلقة، أو الحقوق. إنما أقصد أن ثمة فروقات حقيقية تحتاج استحقات طبيعية في معادلة العقد الاجتماعي الذي بنيت عليه الدولة، وفي غياب هذه الاستحقاقات تبقى الأزمة قائمة وإن توارت تحت السطح بفعل قوة الدولة، كالذي يمارس الضغط على فلينة في حوض ماء ليقول: إن الفلين يغطس ولا يطفو، ما إن تزول القوة الضاغطة حتى يتبين لكل ناظر خطأ الدعوى. المشكلة أننا تعرضنا للغطس والطفو مرات ومرات وما زلنا مشروعاً جاهزاً للخديعة!

لا بد من فرز الأوراق قبل استعمالها. فالتفريق بين المتشابهات فرقان لا يوفق إليه كل أحد.

نحن والشيعة شعبان مختلفان تمام الاختلاف لا يجمعنا دين، ولا تربطنا قومية، ولا تقرب بيننا مشاعر مشتركة، إلا بنسب غير مؤثرة، لا ترقى لأن تتجاوز العتبة التي تؤهلها لأن تكون في أصل عناصر معادلة العقد. بل هذه العناصر هي أسباب تفرقة أكثر منها عوامل جمع ووحدة.

هذا ما تجاهلته الدولة العراقية الحديثة عند تأسيسها. واستمرت على هذا العوج طيلة ثمانية عقود ونيف. وكان عليها أن تضع هذه الحقيقة في الميزان، وتقر أن الاختلاف حقيقي يلجئنا إلجاءً إلى إجراء تعديل في تركيبة المعادلة على قدر الاستحقاق. كأن يكون العراق من البداية دولة اتحادية فدرالية تمارس فيها كل طائفة حياتها ضمن فدراليتها. إن هذا سيسهم بقدر كبير في إزالة أسباب التوتر، وتقليل مثيرات التحسس بين المكونات، ويمنحها نصيباً كبيراً من الشعور بالحرية، والتمتع بالعدل في توزيع الحقوق.

في آخر دورة للكلية العسكرية في العراق كان عدد المقبولين فيها (400) من المتقدمين، (11) فقط منهم من السنة، ترك الدراسة منهم (9) بسبب المضايقات المختلفة، وبقي اثنان، (2) فقط من السنة مقابل (389) من الشيعة!

وهذا مجرد مثال من أمثلة تعج بها الحياة اليومية في العراق، يتجرع بسببها السنة مرارة التهميش والإقصاء، وغبن الحقوق على مدار اللحظة.

دعونا نمارس عملية فرز الأوراق.

  1. هل كنتم من قبل تتوقعون من الشيعة غير هذا؟ إذن أنتم لا تعرفون عقيدتهم ولا عقدهم ولا تأريخهم. والقانون لا يحمي المغفلين.
  2. هل هذا العمل في نظرهم خطأ أم صحيح؟ لا شك أنه صحيح، وإن كان بمنظار المواطنة (الأساس الخطأ في تأسيس الدولة) خطأ لا يجوز. فهم يمارسون دوراً مزدوجاً طبقاً لعقيدتهم وأخلاقهم: فهم في الظاهر يرفعون شعار المساواة كي يكسبوا المزيد والمزيد من الفرص دون توقف عند واحدة منها، وفي الوقت نفسه يتبنون مشروعاً (طائفياً) وبرنامجاً عملياً طبقاً إليه. أما نحن فكنا مغفلين: الشعار والبرنامج عندنا واحد. وهكذا أضعنا الدولة.
  3. ماذا كان ينبغي أن يكون الحل؟ وعلى أي أساس يكون العقد؟ والجواب – في قناعتي – هو ما قلته لكم من تطبيق مبدأ الفدرالية (الإمارات العربية المتحدة مثال ناجح، وكذلك إقليم الكرد في شمال العراق).
  4. هل من حل آخر؟ نعم هو عدم إعطاء الشيعة فرصة للتغلغل في مرافق الدولة الحساسة والمهمة، الحل الذي يمارسونه اليوم بأبشع صوره، ويعتبرونه من الحق والصواب بالنسبة إليهم. إن معاملة الناس حسب نقطة الشروع التي يتساوى فيها الخلق دون اعتبار لخصوصياتهم وما تقتضي من استحقاقات، جهل وسذاجة؛ إن تسليم القطيع لخائن حاقد تضييع للأمانة. والشيعة يمارسون الخيانة وسرقة أموال الدولة تديناً وتعبداً، وثأراً وحقداً. فالضرب على يد طائفة بهذه الخصائص الخطيرة حكمة من ضيعها لا يلومن إلا نفسه. وزير في حكومة الجعفري كان يمتهن سياقة تكسي صار بعد عام من ممارسة التدين الشيعي في أموال الدولة مالكاً لناطحات سحاب في دولة أوربية! وهكذا هم في عمومهم إلا القليل. كيف تتعامل مع هذا الصنف من الطوائف؟ إما بالعزل حتى يكون بعضهم يأكل بعض، أو تركهم يأكلوننا. و……..

هكذا كان ما كان. ويا كان ما كان مما كان في حديث الأوان وقديم الزمان! و….. تصبحون على خير.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى