مقالات

التقسيم أم الفدرالية ؟

في بداية حزيران/يونيو السنة الماضية كتبت بحثاً مختصراً بعنوان (الفدرالية ووحدة العراق نظرة تأصيلية واقعية) قدمته لأحد المراكز البحثية المختصة بالشأن العراقي قلت فيه:

(… وإذا بقي الوضع على ما هو عليه فإن السنين العشر القادمة – بل أقل من ذلك – ستشهد تغييراً ديمغرافياً ينذر بكارثة مستقبلية قريبة لصالح الشيعة ضد السنة. عليه يكون شعار (وحدة العراق) في هذه الحال، يحمل في أحشائه خطراً شيعياً إيرانياً لن يتوقف عند الحدود الغربية والجنوبية للعراق، وإنما يتجاوزه إلى الدول العربية المجاورة. يستدعي هذا التشخيص تحركاً سريعاً منضبطاً لوضع حلول مناسبة من أجل احتواء الكارثة قبل وقوعها أو اكتمال معالمها. والقائد هو من يستشرف الحدث قبل وقوعه، لا أن ينتظر حتى تتتابع الخطوات وتتداعى الأمور وتمسي الأحداث معلومة لعامة الجمهور. وعندها يكون الأوان قد فات كثيراً على العلاج.

في الواقع العراقي اليوم نلحظ ما يلي:

  • بدأت صيحات سنية تتصاعد شيئاً فشيئاً للاستقلال والانفصال عن الشيعة قبل أن يتم أكلهم بالكلية، سيما بعد الانتخابات الأخيرة وتأكد السنة من سوء النية المبيتة ضدهم، وأن الشيعة جادون في قضمهم شيئاً فشيئاً وبصورة متسارعة، وأنهم مصممون على إقصائهم وسحقهم، دون أن يلمسوا يداً من أحد تمتد إليهم بالحماية أو استرداد بعض حقوقهم التي اغتصبت. خصوصاً وأن القوى الأمنية الطائفية ماضية في مطاردة السنة واعتقال أبنائهم وقتلهم وارتكاب أفظع ممارسات التعذيب الوحشي بحقهم بما في ذلك الاغتصاب اليومي لهم في أقبية الزنازين والمعتقلات السرية، وما تنقله الفضائيات بعض الشواهد على ذلك.
  • كذلك نلحظ ولادة جيل من الشباب السني، يشعر بالضياع واستلاب الحقوق، ووقوع الضيم الذي لا يطاق على كاهله وهو في بداية استقباله لنسائم الحياة والشباب. جيل شاهد بعض أفراده أباه أو أخاه أو قريبه يقتل أمام عينيه بكل وحشية، أو وجده مرمياً على المزبلة وقد شوهت معالم جسده بالتعذيب. أو اغتصبت أمه وأخته في السجون، أو وهو ينظر إليها مكبلاً بالقيود، أو ما زالت ترزح قيد الاعتقال وهو يتقلب على فراش الخوف والشعور بالمهانة. وبعضهم عذب في السجون إلى حد الاغتصاب. جيل عاطل عن العمل، فاقد للأمل بالمستقبل. وقد سمع ورأى من معالم الطائفية قولاً وفعلاً ما يهتز أمامها أبعد الناس عن الدين ليستيقظ فيه العرق الطائفي، والنفس التعصبي ليكون إنساناً يحكم تصرفاته جميعاً هاجس الثأر والرغبة بالانتقام رداً للاعتبار.

كل هذا يستدعي منا إعادة النظر في المفاهيم والفكر والمواقف، وأن تكون لدينا القابلية المستمرة لتنشيطها وتجديدها بما يتلاءم ومعطيات الواقع، دون أدلجة نمطية للأشياء بعيداً عن الواقع. ومن ذلك مفهوم (الفدرالية) وعلاقته بثابت (وحدة العراق)، ومتى يكون خادماً ومتى يكون هادماً له.

إن هذا يجعلنا – نحن السنة العرب في العراق – نشعر أننا اليوم أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما:

  • إما التسليم بالأمر الواقع، وتقبل المشروع الشيعي، من أجل الحصول على بعض المكتسبات الفردية أو الفئوية على حساب المجموع
  • أو العيش على وهم (الوحدة) هكذا مطلقاً دون قيود

وهنا نسأل سؤالاً كبيراً بعلامة استفهام كبيرة: ما فائدة عراق موحد لكنه شيعي حكومة وشعباً؟؟؟؟ بهذا نكون قد دفعنا الثمن الذي لا يعوض مسبقاً وهو اختفاء هوية العراق السنية العربية، وزوال المكون السني، أو تحوله إلى شراذم تعيش على هامش الحياة، كما هو الحال مع أهل السنة في إيران بعد مجيء الصفويين: التجربة التي تحرص إيران على استنساخها في العراق، ثم في بقية الدول. لا أعتقد أن عاقلاً في الكون يتقبل هذا الثمن الفادح (عراق شيعي) مقابل شيء اسمه (وحدة العراق). سيكون العراق في هذه الحال عدواً يستدعي من الدول المجاورة الوقوف ضده، والسعي إلى تفتيته؛ فما عدا مما بدا؟

نعم نحن نريد عراقاً موحداً، ولكن سنياً عربياً، وليس شيعياً شعوبياً. وحيال هذا الهاجس سيكون الخيار الآخر هو البديل الأقرب لالوقوع ولتحقيق المصلحة.. بديل الانفصال عن الشيعة وتكوين دولة خاصة بالسنة لحماية المكون السني ككل من الذوبان والتفتت تحت آلة السحق الشيعي التي لا ترحم، بعد أن فشلت كل محاولات التعايش الشريف. وهو الأمر الذي يلقى رواجاً متنامياً من السنة في الفترة الأخيرة.

بناء على ما تقدم تكون (الفدرالية) هي الحل الوسط الأمثل، الذي سيحقق الهدفين العظيمين: الحفاظ على وجود المكون السني، واسترجاع حقوقه من جهة، والحفاظ على وحدة العراق، وزوال شبح التقسيم بعد أن تكون مبرراته قد خفّت أو اختفت من الواقع من جهة أُخرى. أما شكل هذه الفدرالية أو نوعها فله حديث آخر؛ إذ يمكن أن تكون فدرالية محافظات، وفي المحافظات المختلطة تكون فدرالية مناطقية. وفي هاتين الحالتين لا يكون وجود للخوف من التقسيم تماماً؛ إذ لا يمكن لمحافظة أو منطقة أن تكون مشروعاً للانفصال. ولست في مقام التفصيل، وإنما أضرب مثالاً لمعرفة المقصود. علماً أنني لمست من كثير من الأشخاص والجهات موقفاً ذا وجهين متناقضين: إذ يبدي في العلن الحماس لوحدة العراق ويصرح بلعن الفدرالية، لكنه في السر ومع من يأمن لهم ويطمئن إليهم لا يتورع عن قبوله، بل دعوته لتقسيم العراق وتكوين دولة سنية عربية بعيداً عن الشيعة والأكراد. وذلك خوفاً من التهمة بالخيانة التي تمارسها بعض الهيئات المؤدلجة الجامدة، التي لا تعرف غير إطلاق الشعارات وترديد المصطلحات وهي في بروجها العاجية دون أي نظر في متطلبات الميدان المتغيرة، أو وضع أية حلول بديلة مناسبة).

واليوم تأتي تصريحات الأستاذ أسامة النجيفي وصالح المطلك وهم علمانيون بعيدون كل البعد في أيدلوجيتهم ومرجعيتهم السياسية عن الثقافة والمرجعية الدينية، ليلوحوا ويهددوا لا بالفدرالية وإنما بالتقسيم. والقادم يبشر بالمزيد.

ألم أقل لكم عن الشيعة: مقتلهم في حماقتهم؟! وأزمتنا في قيادات لا تعي إلا بعد انتباه الجمهور الذي صحا على وقع الحدث؟

من سبقته الأحداث سبقه الأحداث

عندما بدأت نشر مقالاتي عن الفدرالية في موقع (القادسية) ربما لم يرد الكثيرون أن يصدقوا ما قلته في أول مقالة منها: “منذ مدة ليست بالقصيرة في حسابات الدول المحتلة، أخذ الحديث بين السنة (العرب) عن الأقاليم والفدرالية يشيع وينتشر شيئاً فشيئاً، ثم أخذ يتصاعد بوتيرة أسرع، أتوقع لها أن تصل إلى مرحلة التداعيات التي يصعب ملاحقتها. بدأ الحديث همساً، ثم صار جهراً، وقد ينقلب صراخاً إن لم تجد المأساة السنية لها صورة من صور الحل”. وقد يكون بعضهم سخر من قولي: “إن النهاية الحتمية ستكون التشرذم والانفصال لا محالة”. وذلك في حالة عدم الذهاب إلى خيار الفدرالية.

لم يمر على كلامي هذا خمسة عشر يوماً حتى فوجئنا أمس بتهديد رئيس مجلس النواب الأستاذ أسامة النجيفي بأن التهميش إذا استمر دون معالجة فإن السنة لن يجدوا أمامهم خياراً غير الانفصال!

“الانفصال”.. مرة واحدة؟! وليس الفدرالية؟!!

وتخرج الكلمة من أسامة النجيفي؟!!! أسامة الذي التقيته قبل حوالي عامين، وطرحت عليه ملخص المشروع الذي نشرته في بداية آذار/مارس/2009 وكان بعنوان (الدولة الوطنية وشعاراتها أخطر مظلة لتمدد التشيع الطائفي في مناطق السنة) – وكنت سلمته من قبل إلى الأستاذ أثيل النجيفي – فعارضني أسامة بشدة قائلاً: هذا تطرف طائفي. الشيعة إخواننا، وهم جزء من الشعب ولا نرضى بعزلهم عن المجتمع العراقي. قلت له: والكرد إخواننا وهم جزء من الشعب فلماذا حين فزتم بمجلس محافظة نينوى همشتموهم وعزلتموهم تماماً عن هذا الشعب، ولم تعطوهم أدنى حصة في إدارة المحافظة؟ لا أريد أن أذكر جوابه على هذا السؤال ولا ردي عليه، ولكن أذكر لكم هذه العبارة التي قلتها في آخر الكلام: ليكن في حسابك أن جيلاً بدأ بالظهور نتيجة المأساة والمعاناة.. إن لم نتدارك الأمور بالعلاج الواقعي فإن هذا الجيل سينظر إلى كلامنا – نحن المعتدلين – بعين الريبة والتهمة، ويعتبر مجرد لقائنا بأمثالكم كافياً لتجريم الطرفين. بل اسمعها مني صريحة: والله والله! لن نسمح لشراذم الشيعة أن تستمر في سفاهتها وسعيها في تشييع السنة، ولن نسكت عليكم طويلاً وأنتم تنظرون إليهم ساكتين في ظل أوهام الأخوة وشعارات الوطن والوطنية. سنكون أول أعدائكم، وعندها لن تجدوا من يشفع لكم أو يقف معكم.

يومها لو كنت تحدثت له بشأن الفدرالية لكان قد قذفني بالكفر والتكفير!

واليوم…….

“الانفصال”.. مرة واحدة؟! وليس الفدرالية؟!!

ضحكت كثيراً هذا الصباح وأنا أنا أستمع إلى الأستاذ صالح المطلك على شاشة التلفزيون يلوح ويهدد بما هدد به الأستاذ النجيفي أمس أو أول أمس!

وتضحكون أكثر حين يكون شيعي تهشيمي تقسيمي كعضو ائتلاف المالكي عدنان السراج يستنكر هذا التصريح، ويعتبره خطيراً ويهدف إلى تقسيم العراق! ووأكثر أكثر عندما تدخلون مواقع الشقاق والنفاق والعمالة والشعوبية لتتطلعوا على تعليقات الشيعة التي تتهم النجيفي بالعمالة والمؤامرة!

آلآن يا شيعي!

وصدق الله تعالى إذ يقول: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) (يونس:90-92).

لقد ذهب زمانكم وجاء زماننا.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى