مقالات

ثنائية الإيمان والنصرة

د. طه حامد الدليمي

C:\Users\f\Downloads\quran_gun.jpg

كان صديقي النائب يتحدث ويعجب!

أما أنا، فكنت أتفكر في حديثه وأربط بينه وبين آيتين من القرآن: كل آية في سورة، وأقول: ألا ما أعظم كتابَ اللهِ!

لو فقه المسلم معنى واحدة من تلكما الآيتين، وربى أولاده عليه لكان لنا شأن آخر!

قال النائب: قبل أيام، وعلى إحدى القنوات الفضائية، رأيت فلاناً العضو في مجلس محافظة صلاح الدين يتكلم ضد الفدرالية ويقول: أنا لا أريد أن أخون الجمهور فأتبنى الفدرالية وأدعو لها. فبادره مقدم البرنامج: هل كنت من الأعضاء العشرين الذين صوتوا للمشروع؟ فصار يتملص من الجواب بكذا وكذا، لكن المقدم لم يترك له مجالاً للخلاص، فصار يحاصره بأسئلته حتى اضطره للاعتراف فقال: نعم أنا كنت ضمن المصوتين لصالح الإقليم. قال: كيف تعطي صوتك للفدرالية وأنت تعتقد أنها خيانة للجمهور؟ فكان جوابه: ماذا أفعل؟ رأيت الجميع رفعوا أيديهم فرفعت يدي!

هكذا إذن: رأيت الجميع فعلوا ففعلت! فعلت حتى لو كان المفعول في اعتقادك خيانة..؟! أقول.. “خيانة”! خيانة..! ثم تخرج على الملأ ولا تستحي من التصريح بأن الفعل فعل خيانة، لا وتدعو “الجمهور” إلى ترك هذا الفعل الخياني الذي رتعت فيه إلى ذقنك؟!

عن أي بيضة خرجت؟! وفي أي عش درجت؟!

ترى كم في نوابنا مثل هذا النموذج الإمَّعة الخؤون؟ لا شك أن مثله موجود، وربما بنسبة كبيرة. وهذا الحكم، أي وصمهم بالخيانة، إنما هو لازم قولهم هم، لا قولي أنا.

ثم هل يمكن لهؤلاء (الخونة) أن يقودوا الجمهور إلى طريق غير طريق (الخيانة)؟!

إن كان ما سأقوله مشكلة فـ(مشكلتي) أن الطب علمني أن أنظر إلى كل حدث أمامي على أنه حالة سريرية تتطلب مني شيئين: التشخيص ثم العلاج، ولكل واحد منهما أسسه وتفاصيله، ومنه النظر في تاريخ الحالة، وكيف تطور المرض، وما هي مآلاته؟

يقول الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:82،81):

(لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ)……… (وَ… لَتَنْصُرُنَّهُ)…………

الدين إذن لا يتم إلا بالنصرة. هذا هو الدين، و…….. (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (آل عمران:83). ولمن لم ينتبه أقول: هذه الآية موضعها بعد الآية السابقة مباشرة بلا فصل. أي إن الدين هو هذا.. إيمان ونصرة. فلا دين بلا نصرة، كما أنه لا دين بلا إيمان……. (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)! وهذه ليس بينها وبين الآية السابقة سوى آية واحدة. فمن أراد أن يصنع له ديناً على هواه فهو وما هوي، لكن ليعلم أنه من أخذ الإيمان بلا نصرة أو جهاد فهو ليس على دين الإسلام المنجي من النار (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:142)!

الآية الثانية

هذا كله في سورة واحدة. فأين الآية الثانية؟ ولماذا ذكرتها؛ ألا تكفي هذه الآيات؟

الآية الثانية هي قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5):

الإيمان أقرب إلى باب العبادة، كما أن النصرة أو الجهاد أقرب إلى باب الاستعانة، وكتاب الله يفسر بعضه بعضاً. فإن لم يسمع المسلم تلك فقد سمع هذه قطعاً. إذن حجة الله قامت عليه. وهذا يزيدنا إيماناً على إيمان من حيث أن (الفاتحة) جمعت كل القرآن، وهذه الآية جمعت كل (الفاتحة)، فالقرآن كله مجموع في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) كما يقول سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وهذا إعجاز لا يقدر عليه مخلوق!

لو تربينا على هذه المعاني العظيمة، وربينا عليها أولادنا وأُسرنا، لما تخرج واحد من بيوتنا (إمعة) يرفع يده (وربما رجله أيضاً) مع الرافعين، ويخفضها مع الخافضين؛ فأين هو إذن؟ أين شخصية المسلم بشقيها: المؤمن المجاهد، أو العابد المتوكل؟ والإنسان بلا شخصية نسخة مكررة لا معنى لوجودها.

نوعان من الخلل

يعاني هذا الصنف من نوعين من الخلل: خلل في الأخلاق، وخلل في القوة أو الثقة بالنفس. إنه شخص هزيل ضعيف.

تصوروا….. لو استحضر هذا النائب الإيمان لاستحيى من نفسه إمعة يكون، فالإيمان بلا خلق.. بلا حياء هيكل بلا مضمون.

ولو استحضر هيبة الله وقوته وأنه يعين عبده متى ما احتاجه وقد استنفد ما عنده لما كان ضعيفاً. كيف يضعف من يؤمن أنه يأوي إلى ركن رب شديد؟!

النائب يعاني من خلل في الناحيتين: ناحية (الإيمان) وناحية (النصرة). أي ناحية (العبادة) وناحية (الاستعانة).

عندما يقرأ المسلم هذه الآية يربأ بنفسه ويخجل منها أن يظلمها فيمسخ وجودها ويحطم كيانها، وستكون هذه النفس خصيمه يوم القيامة. لقد ظلمها بأن حرمها موقع (الأولية) التي أراده الله لها، وأرادها له: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (الأنعام:163).

السور الأول نزولاً

تأملوا السور الأربع الأول من القرآن الكريم، وما سر نزولها بهذا الترتيب: (العلق) ثم (القلم) ثم (المزمل) ثم (المدثر). وقد كان بين نزول الأولى والرابعة ستة أشهر.

سورة (العلق) هي سورة العلم: (اقرأ). وبداية كل مشروع تنطلق من العلم به.

وسورة (القلم) سورة الخلق: (إنك لعلى خلق عظيم) وما يقابل هذا الخلق العظيم من أنواع الخلق الذميم.

وسورة (المزمل) هي سورة العبادة: (قم الليل). كل هذا ولما ينزل (القول الثقيل) بعد! (إنا سنلقي…) والسين للاستقبال (سنلقي عليك قولاً ثقيلاً).

حتى إذا نزلت (المدثر) تبين ما هو القول الثقيل: (قم فأنذر). هنا ولدت (القضية) بعناصرها الأساسية: العلم والخلق والعبادة والدعوة. وتكامل الدين بشقيه: الإيمان (علماً وخلقاً وعبادة)، والنصرة (دعوة ونذارة).

هل في الأمر تعقيد؟ أم فلسفة؟ أم خيال وتجريد؟

ألا ما أحوجنا إلى العودة إلى أول خطوات الطريق، ومفردات القرآن.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى