مقالات

عربة واحدة .. وحصانان سائبان

د. طه حامد الدليمي

araba

يقولون: “أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي”.

صحيح، ولكن الزمن له استحقاقه الذي يؤخذ عُنوةً من جيب المتأخر.

رجل عاش عمره ثرياً وافتقر فجأة: كم يحتاج من زمن ليتخلص من تحكم العقل اللاواعي الذي ما زال غارقاً في وهم الثراء ليتصرف كفقير؟ ما من شك في أنه يحتاج إلى سنين. لكنه قد لا يشعر أنه خلال هذه المدة إنما يقوم بدفع ثمن باهض أداءً لاستحقاق الزمن، فلا يزداد إلا فقراً وتراجعاً وعناءً وتمزقاً؛ لأنه ينفق إنفاق الثري ولكن من جيب فقير. ويوم يصحو ليلحق بركب أمثاله من الفقراء الذين كان يستنكف من الانتماء إليهم، سيجد نفسه قد تأخر كثيراً، وقد لا يجد له مكاناً بين الفقراء!

الشعوب – كذلك – لها عقل لا واع جمعي، يختزن الماضي ليعكسه على الحاضر.

وعند نقاط الانعطاف التاريخية لا تكفي آحاد السنين إيقاظاً لذلك العقل اللاوعي الجمعي لكي يصحو. إنما نحتاج هنا لعقود من الزمن تتقدمها طلائع من المجددين الواعين الذين يصرخون بالمجتمع المخدر بالثقافة الماضوية التي تناغم عقله الجمعي؛ لأن هذه هي طبيعة الأشياء، ولأن عموم حداة المجتمع ما زالوا من الماضويين المتخلفين، وهم لا يفتأون ينعقون بثقافتهم المتخلفة، ويتهمون طلائع التجديد – على قلتهم – بشتى التهم. فكيف إذا كان التخلف بضاعة نافقة في سوق السياسة والوجاهة و(الوطنية) الخائبة!

وهم العراق الواحد

ما زال سنة العراق – ومعهم شعوب المنطقة – يتوهمون أن العراق عراق واحد، فيتكلمون عن وحدته وضرورة التمسك بها. وليس هذا إلا من رواشح الوهم الجمعي الحالي الذي هو من مخلفات العصر الماضي، والذي هو في حاجة ماسة إلى توعية قوية وصدمات صاعقة كي يتحرر الوعي المخدر من سيطرة هذه الرواسب الوهمية التي ما زالت رواشحها تلوث الوجود السني بأمراض معدية خطيرة ومسرطنات قاتلة. وإلا فسيصحو السنة بعد عقود ليجدوا أنفسهم على أطراف بلد كان اسمه العراق، تماماً كما حصل من قبل لسنة إيران.

عربة وحصانان

إلى كل من لا يزال ينام مطمئناً إلى دفء تلك الأوهام، وما زال يحلم بأنه ما زال في الوجود عراق واحد موحد، وليس في بلد مقَسّم في أساسه وتكوينه قبل واقعه المعبر بصدق عن ذلك التقسيم، لا يجمع بين شعبيه (السنة والشيعة) جامع، بل كل شيء فيهما ينادي بالفرقة والتضاد والتنافر والاختلاف: من المصالح إلى العقائد، ومن النفوس إلى العقول، ومن الثقافة إلى الفكر، ومن الانتماء إلى الولاء، ومن المسير إلى المصير. بلد اختطفه الشيعة في لحظة أعدوا لها قروناً من الزمان، فسيطروا عليه، وصار – بحكم الحقيقة التي عبّرت عن نفسها، وليس بحكم واقع الحال فقط – بلداً للشيعة وللشيعة فقط، ولولا أن الكرد احتموا بإقليمهم لكان مصيرهم مصير باقي السنة، ونوايا الشيعة في احتلال كردستان، ومحاولاتهم الأخيرة الرامية لذلك في كركوك ونقاط التماس قبل انتفاضة السنة العرب الحالية، لا تحتاج إلى بينة أو برهان. إلى كل أولئك الواهمين الحالمين أقول:

العراق في حقيقته، وفي واقعه أيضاً، عبارة عن عربة يجرها حصانان بلا رابط بينها. كل حصان يشد باتجاه، والركب يسير، فلا يزيده المسير إلا تباعداً بين الأحصنة وتمزيقاً للعربة! سوى صيحات ساذَجة أو خبيثة من هنا وهناك تنادي بربط الخيول ببعضها، ولا رابط.

استحالة ( الربيع العراقي )

ولهذا فإن (الربيع العربي) إذا كان ممكناً في مصر، في تونس، في ليبيا، في سوريا، في اليمن.. في كل بلد ذي أغلبية متجانسة، فإنه في العراق غير ممكن ما لم يتم الفصل واقعاً بين الحصانين بعد اليأس من الجمع بينهما لأنه مستحيل في أساسه وحقيقته. فالشيعة حل ربيعهم منذ عشر سنوات، وتظاهرهم لا يتعدى سقف الخدمات. ولن يقبلوا من الآخرين أي حراك لأنهم يرون فيه تهديداً لربيعهم. والكرد لهم ربيعهم. والسنة كذلك. وكل ربيع مختلف عن الربيع الآخر. وهذا أحد أسباب فشل حراك 25 شباط 2011، وقد بشرنا بفشله في حينه، وسخرنا من تسميته ربيعاً والمظاهرات قائمة.

لندع الأسباب الحقيقية وراء استحالة الجمع بين الحصانين، ولْننظر إلى الوقائع المعبرة عن تلك الأسباب والتي نراها ظاهرة للعيان في ميدان الأحداث:

شهادة الواقع

قبل أيام قليلة ظهر نوري المالكي مندداً بالاحتجاجات الجارية في المنطقة السنية فقال ما معناه: لا ينبغي لطرف أن يفرض رأيه على طرف آخر: فإذا كان هناك من يريد إلغاء قانون الإرهاب فهناك من يرفض إلغاءه. وإذا كان هناك من يريد إلغاء قانون المساءلة والعدالة فهناك من يريد تفعيله. وعدد قوانين أخرى. ثم قال مخاطباً المحتجين السنة: لستم وحدكم في الساحة، وليس كل من تظاهر وأخرج في الشارع ألفاً أو ألفين ينبغي أن ينفذ له ما يريد. ثم اتهم المحتجين بأنه يدفع لكل واحد منهم مئة دولار آتية من الخارج، ووصفها بالوسخة! لقد نطق الرجل بحقيقة خطيرة، ووضع يده على أعراض واضحة معقدة لعلة مزمنة مستعصية، لا تواجه أو تحل بالشعارات والنوايا الساذَجة. ولا بترحيل المشكلة هروباً إلى الأمام مقابل تسكين مؤقت لوجع كامن. والسؤال الذي نتحدى به جميع الواهمين الحالمين: ما الحبل الصالح لأن يكون رابطاً بين هذين الحصانين المستنفرين المتنافرين؟

وجاء في بيان لعلماء ديالى قبل ثلاثة أيام: تفاجأنا بأن البرلمان معطل ولا يجتمع ليكتمل النصاب من أجل اتخاذ قرار! وما ذكره البيان إنما هو توصيف لذلك العرَض الواضح المعقد عن تلك العلة المزمنة المستعصية. فالبرلمان صورة مصغرة للواقع الذي ذكره نوري المالكي. للعراق المعطل من الأساس جراء أسباب جوهرية مستحيلة العلاج. وإذا كان ثمت أمل – ولا أمل – في البرلمان (العراقي) أن ينسجم، فعند ذاك يمكن القول: إن ثمت أملاً في أن ينسجم الحصانان ويرتبطا ببعضهما لتبقى العربة سليمة في بنائها مستقيمة في سيرها.

إنهما حصانان سائبان في منطلقهما، مشتتان مضطربان في سيرهما، مختلفان مفترقان في هدفهما.. يجران في عربتهما شعبين مختلفين لا يلتقيان، ولن يلتقيا، أبداً. وليس من حل إلا بأحد خيارين: إما نزول أحد الشعبين للركوب في عربة (الإقليم)، أو تمزق العربة نتيجة السير، واللجوء إلى واقع (التقسيم). وسيأتي اليوم الذي يتقيأ فيه السنة العرب هذه الحقيقة، وتضج جماهيرهم بسنيتهم التي طالما جبَّنهم عن التعبير عنها الواهمون الحالمون والخبثاء والمتاجرون. ولكن – وهذا ما يؤسفني ويدمي قلبي – بعد أن يقاضيهم الزمن بثمنه المتعسر نتيجة الاستحقاق المتأخر.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى