مقالات

في ذكرى الشهيد نوري خلف الدليمي (2)

د. طه حامد الدليمي

نفحة

من عبق الماضي

إليكم يا أحبتي صورة ذلك المشهد الذي ذكرته لكم آنفاً، منقولة عن دفتر كنت أنتابه بين الحين والحين لأرسم فيه منارات صغيرة أستدل بها على تاريخ طويل قطعنا أشواطه في زمن مضى، عسى أن يمنحنا الله تعالى فرصة تدوينه فيما نستقبل من أيام:

;

قبل أسبوعين في مثل هذا الوقت (أي صباح يوم الأحد 15/4/2001) كانت السيارة تنهب الأرض بنا متجهة إلى (دلي عباس) بمحافظة ديالى، لنزور صديقاً لنا قديماً كريماً هو محمود الجبوري، بعد محاولات عديدة لتنظيم هذه الزيارة وضرب موعد يناسب جميع المتشوقين له الداعين لزيارته، وهم يحاولونها منذ سنتين تقريباً! وأخيراً تمكنا من الاتفاق.. وتمت الزيارة!

مَن هذا الصديق القديم الكريم: محمود؟ ولماذا الكل يحبه ويشتاق إلى رؤيته؟

تعرفنا عليه في ناحية مشروع المسيب الكبير (جبلة) قبل ربع قرن من الزمان! كان مهندساً زراعياً يشرف على مزارع الدولة والغابات هناك أيام كان للوظيفة بريقها.. وخبزها الذي يجذب الناس بعيداً عن مناطقهم التي نبتوا فيها.

وجمع بيننا المسجد الوحيد في الناحية كلها: مدينة وأريافاً. والتقت القلوب والأرواح، وتوثقت العلائق في رحاب الدين وظلال المسجد ونفحات العلاقة الراقية ولمسات الخلق الكريم.

كان محمود من القلائل الذين ربطته بالشيخ علاقة روحية أخوية. ارتقت وسمت وتوثقت فكانا كالشخص الواحد في جسدين. ولكم أن تتخيلوا وثاقة هذه العلاقة عندما تعلمون أن الشيخ – رحمه الله – ما كان يصطفي من الإخوان إلا النادر من أولئك الذين يحوزون صفات خاصة، ويجوزون عقبات لا يجتازها الكثيرون!

ثم …..

تغيرت الظروف.. وخبا بريق الوظيفة.. وقل خبزها فرجع محمود إلى حيث كان يقطن من قبل في قرية (دلي عباس) في ديالى. كان ذلك عام 1992 بعد أن استشهد أخي بعام.

,, وظل محمود في أذهان الجميع حلماً جميلاً يذكرنا بماض جميل. وأتنهد والصور القديمة الحلوة المرة تراود خاطري: ها أنا أسير في ذلك الزقاق المتعرج ما بين المسجد وبيت محمود، مخترقاً عن يمين وشمال بيوت الحي التي غالبها من طين، وأشجار القلمطوز (الكافور) تظلل المكان. ها أنا أعبر الساقية الضيقة من اليسار إلى اليمين لأواصل السير باتجاه البيت الذي طالما دخلناه وجلسنا فيه وأكلنا وشربنا وتحدثنا وسمرنا. وأبيات من قصيدة طويلة تلوتها على أسماعهم في يوم من أيام عام 1979 تحكي قصة حب عاثر طوحت به الأيام بعيداً بعيداً، أسميتها (الغلطة الأولى) فأردف أخي قائلاً وهو يضحك: والأخيرة إن شاء الله!

يا لله.. ما أجمل تلك الأيام!

هل حقا إنها جميلة؟

أم لأنها أمست في ضمير الزمن ذكريات وتأريخاً وماضياً!

ولماذا كل ماضٍ جميل؟ ما هو السر في ذلك؟

إنني أكتب هذا الذي أكتبه وكأن مضعة قابعة في يسار صدري تطحن طحناً، أو كأنها تنشر بالمناشير!

إن صورة المسجد ونهر المشروع والطريق الطويل الذي كنا نقطعه مشياً على الأقدام حيناً، وعلى (البايسكل) أو الدراجة الهوائية حيناً.. ثم تطورت الحال فكانت الدراجة البخارية فيما بعد . وكثيراً ما كنا نستقل السيارات العمومية. وهناك في ذلك البيت الطيني في آخر نقطة من فرع نهر (الخربانة) حيث يسكن أخوالي أجد أمي.. الحنان والحب والوجه الطافح بالبشر. الوجود والتأريخ والصبر والزاد والعفة والدين.

أين توارى ذلك كله؟…….. أين؟! وكيف؟!

مجلدات من الذكريات تتطاير أوراقها الآن أمامي، في كل ورقة صورة بل صور بعضها باهت يكاد يختفي، وبعضها واضح القسمات، وبعضها لا أكاد أتبينه. لكنها عزيزة على قلبي كلها.. رغم أنها تعصره عصراً، تطحنه، بل – قل – تذبحه. وها هو ينز دماً يتصاعد بخاره إلى الحلقوم ويخرج من مناخري حاراً دافقاً.

وحين تعود بي الذكرى إلى الوراء إلى تلك الأيام البعيدة الموغلة في أعماق الماضي تتكرر على صفحة ذاكرتي صور لا تكاد تفارقني. ها أنا أنظر إلى أخي ممتطياً دراجته الهوائية عصر يوم من أيام 1978 ذاهباً إلى المسجد قاطعاً على الدراجة تلك المسافة الطويلة، والتي تبلغ بضعة كيلات، على الطريق الترابي بجوار النهر، ينود على دراجته وأنا في حقل الخيار أنظر إليه. لماذا انحفرت هذه الصورة بعينها أو انطبعت على صفحة الذاكرة حتى كأن الزمن قد توقفت عجلته فليس إلا أنا أنظر إلى الأفق الغربي، وليس إلا هو يراوح برجليه فوق دراجته، ليدرك صلاة العصر والمغرب إماماً في ذلك المسجد البعيد، ليعود بعدها على دراجته إلى بيته الطيني في ذلك الريف الجميل، قبل أن يقطع الظلام شوطه العميق في جنح الليل البهيم؟!

ومثلها ومثلها.. صور كثيرة، أخشى أن أتحدث عنها لأني أشعر بعجز كلماتي عن تصويرها. بل أشعر أني أشوهها!

ثم هي كثيرة كثيرة، وكلها حبيب إلى قلبي، كأولادي لا أعرف أيهم أحب وأقرب! فما الذي آخذ وما الذي أدع؟! أو قل: ما الذي تجرؤ يدي على تشويهه أولاً؟!

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى