مقالات

سأصلي الجمعة القادمة هنا إن شاء الله

د. طه حامد الدليمي

10 رمضان 1434

قبل دقائق وصلت البيت، وأنا الآن جالس إلى الحاسوب أصور لكم بعض تلك الجواهر باختصار. وحتى لا تتفلت مني الأفكار الحبيسة سطرت أمامي عناوينها الرئيسة كـ”رؤوس نقاط” ثم أخذت أكتب. وكانت تلك العناوين كما كتبتها دون تغيير: (معنى الزكاة: التنقية والنماء: من السموم، تربية الفلو. زكاة الفقير. استفادة الأغنياء من استقرار المجتمع. لعنة حزب الشيطان. من سنين لم أستفد كما استفدت اليوم. عتب. شكرت الخطيب. سأعاود الصلاة في هذا المسجد).

منذ سنين وأنا أصلي الجمعة في أي مسجد كيفما اتفق؛ كل الخطب نسخة واحدة تتكرر علينا في كل المساجد، وكل الخطب نسخة واحدة تتكرر علينا في المسجد الواحد!

ومن باب التنويع ذهبت إلى مسجد لم أصل فيه الجمعة من قبل، أو صليت فيه مرة لكن مع خطيب آخر. ابتدأ الإمام خطبته بنبرة صائم تعب تشاءمت لها، وقلت في نفسي: “هذا هو الموجود”. وافتتح كلامه بالحديث عن الزكاة، قلت: “كما في كل مرة”. لكن الحديث هذه المرة تخللته جواهر بعضها جديد على سمعي، وبعضها كان له تداعيات أثرت فيّ كثيراً، ورفعتني إلى فضاءات رحبة، جعلتني أردد بين الخطبتين: “اللهم آت نفسي تقواها.. زكها أنت خير من زكاها.. أنت وليها ومولاها”.

  • انطلق الخطيب من معنى الزكاة في اللغة (التطهير والنماء). وكنت أتخيل أمامي براعم الزرع كيف تنفلق وتترعرع وتنمو، ثم كيف تنتابها الحشائش المتطفلة فتنادي علينا بإزالتها. وهكذا يقترن النماء بالتطهير. وتذكرت أهلنا في ريف العراق وكيف كانوا – دون وعي منهم بعمق التسمية – يسمون إزالة الأشواك والنباتات الضارة من الزرع بـ(الزكاة) فيقولون باللهجة الدارجة التي تقلب الكاف إلى جيم ثلاثي النقاط: “هيا بنا نزكي”.
  • أول فكرة جميلة حلقت بي عالياً قوله أن التطهير لا يقتصر على نفس المزكي، بل يتعداه إلى نفس الفقير الذي يستلم الزكاة! فالفقير الذي ينظر إلى الأغنياء يتقلبون في رفاهيتهم، ويستمتعون بنعمهم، بينما هو يتقلب بين أنياب الفقر، ولا من أحد يحن عليه فيعينه على فقره: ستنشحن نفسه بالحقد على المجتمع. فتأتي الزكاة لتطهر هذه النفس المشحونة من هذا السم، وتنميها بالحب والصلة والتواصل. وقد تزداد سموم الفقير المحروم حتى ينقلب إلى سارق، أو قاتل. وقد يتطور الأمر فيلد عصابات تقطع الطريق وتُغير على البيوت. وما الشيوعية إلا نتاج نفوس فقيرة حرمت طويلاً واضطهدت كثيراً حتى انفجرت دماملها فاستباحت أموال الجميع، وجعلتها ملكاً مشاعاً فانتقلت بها ردة الفعل من الضد إلى الضد. وهكذا حقدوا على رهبانهم الذين يأكلون أموالهم بالباطل ويكنزونها دونهم فكانت ردة الفعل تجاههم أن قال لينين: “الدين أفيون الشعوب”! والحق وسط بين الجفاء والجفاء. وإذن أول المستفيد من الزكاة هم الأغنياء أنفسهم. فالمجتمع المستقر الخالي من الجريمة هو أنسب بيئة لتنمية المال. فانظروا كيف ينمو المال بالزكاة، ويعود خيره على الجميع!

الله! ما أعظمك ربي! ما أعظم دينك!

  • ذكر الخطيب ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ” وفي لفظ ” إِلَّا جُعِلَ لَهُ شُجَاعٌ أَقْرَعُ يَتْبَعُهُ يَفِرُّ مِنْهُ وَهُوَ يَتْبَعُهُ فَيَقُولُ أَنَا كَنْزُكَ. ثُمَّ قَرَأَ مِصْدَاقَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). وعندما تتأمل الصورة بتمامها والثعبان الكبير يطوق صاحبه وقد تحولت اللذة التي كان يرفعها إلى فمه رياً لجسده وراحة لنفسه: كؤوسها إلى ثعبان يضع فمه بفمه، وشرابها إلى سم يزقه بأنيابه في جسده، وكأن الثعبان يقول له: مالك خائفاً؛ أنا لست غريباً عنك، أنا حبيبك ألا تعرفني؟ أنا مالك.. أنا كنزك الذي كنت ترعاه وتسهر عليه وتربيه، جاء إليك اليوم ليرد لك الجميل.

عندما تتأمل الصورة تأخذك رجفة الخوف من هذا المصير الرعيب!

  • الذي أثارني كيف ينقلب المال غير المزكى في الدنيا إلى سموم في الآخرة. فالدنيا هي صورة رمزية للآخرة في حاجة إلى تأمل كي تتبينها. وفي الآخرة ستتحول تلك الصور الرمزية إلى معانيها الحقيقية؛ “فليس في الدنيا مما في الآخرة – كما يقول ابن عباس – إلا الأسماء”. انظر كيف يصور النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة آكل الربا بسابح في بركة من دم يلقمه الأحجار رجل جالس على ضفتها، فتمتلئ بطنه منها. أليست هذه هي الحقيقة؟ أليس آكل الربا إلا مخلوقاً يمتص دماء الفقراء، انظر إلى اصفرار وجوههم من أيش؟ ماذا يسمي الأطباء حالتهم؟ “فقر الدم”! فمن الذي وصل بجشعه إلى دمائهم فامتصها؟ إذن فليكرع في عالم الحقائق حقيقة ما كان يمتص في عالم الرموز.
  • وتداعت إلى ذاكرتي معان وصور وذكريات. في ليلة من ليالي صيف 1981 وبينما كنت أقرأ في مادة (الأنسجة Histology) تحضيراً لامتحان (اختبار) المرحلة الثانية من كلية الطب، وكان الموضوع عن الكلية ودوران الدم في نسيجها وتصفيته في أنيبيباتها التي ترشح البول من الدم فيعود نقياً طازجاً إلى أوعيته مرة أُخرى: خطر ببالي أن أحسب نسبة البول المترشح إلى نسبة الدم المار بالكلية، وذلك أنني ربطت بين تنقية المال من سمومه بإخراج نسبة منه هي مال الزكاة، وبين تنقية الدم من سمومه بإخراج نسبة منه هي البول. وفوجئت عندما وجدت النسبة تساوي 1/40، وهي نسبة مال الزكاة، فقلت سبحان الله! ماذا لو لم يخرج الجسم البول من الدم؟ فماذا لو لم يخرج المسلم زكاته من المال! هل يعلم البخلاء بزكاتهم أنهم يزقون في مالهم سموماً! وأدركت لماذا أخبرنا الصادق المصدوق أن الكنز يعود في الآخرة ثعباناً يزرق جسد صاحبه الذي يبخل بزكاته سموماً حقيقية.
  • أين هذه الصورة من صورة المنفق المزكي فيما رواه الشيخان – واللفظ لمسلم – عن هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تصدق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فِلْوَه أو فصيله)! أين صورة الثعبان الرعيب الذي تربى في حمأة العصيان، من صورة المهر الجميل الذي يتربى في يمين الرحمن!

هذا.. ولعن الخطيب بشار و(حزب الشيطان) فقلت: سبحان مغير الأحوال! أين الناس منهم قبل سنتين ونصف السنة فقط؟ وتفاءلت بقرب نهاية الشيعة؛ فإن أول الزوال الفضيحة. وعتبت في نفسي – كما في معظم المرات – على نسيان منابر الأمة مأساة سنة العراق. ومع ذلك سلمت على الخطيب، شددت على يده وشكرته على خطبته الراقية، وقلت له: منذ سنين لم أستفد من خطبة كما استفدت هذه المرة! وخرجت من المسجد وأنا أقول: سأصلي الجمعة القادمة هنا إن شاء الله.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى