مقالات

المشروع الناقص

تشويش على الشركاء .. تهويش على الأعداء

د. طه حامد الدليمي

البشر في صراع منذ أن خلقوا سنة الله التي خلت من قبل، كما قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (هود:119،118)، ولا تجد لسنته تبديلاً.

وينقسم البشر في صراعهم إلى أقسام: فمنهم من يمتلك مشروعاً كاملاً – على الأقل بالنسبة لخصومه – ومنهم من لديه مشروع ناقص. وثالث يمتلك فكرة ناضجة، لكنه يفتقر إلى أدوات تحقيقها، أي لديه فكرة، لكن بلا مشروع.

مُخرجات هذه الأقسام المصطرعة ما يلي:

  1. الغلبة لأصحاب المشروع الكامل على أصحاب المشروع الناقص.
  2. تشويش أصحاب المشروع الناقص على أصحاب الفكر الناضج.
  3. عندما ينفرد القسم الثاني بالقسم الثالث في ميدان الصراع تكون الغلبة له، لكن ما إن يدخل القسم الأول في الميدان حتى تكون له الغلبة، أو لعملائه على الجميع.

ما هو المشروع ؟

ولمن يسأل عن المشروع، فهو:

  1. فكرة أو عقيدة، تمثل قاعدة انطلاق للوصول إلى الهدف.
  2. هدف قابل للتحقيق يمثل الاستجابة الملائمة للحاجة أو المشكلة الواقعية الكبرى.
  3. خطة مناسبة تربط بين الفكرة والهدف.
  4. منظومة قيادية، يتبعها جمهور مرتبط بها، تقوم على تنفيذ الخطة.
  5. تدريب مستمر ومتابعة لتطوير الخبرات القيادية ورعايتها كل حسب اختصاصه.
  6. موارد لازمة للتنفيذ.

وهذا، بفقراته الست، نسميه بـ(المشروع المدني).

  1. جناح سياسي ينبثق عن المشروع المدني، يعبر عنه.
  2. جناح عسكري ينبثق عن المشروع المدني أيضاً، يقوم بواجب حمايته.

تكون القيادة العليا لمنظومة القيادة المدنية، لا السياسية ولا العسكرية. التي تكون جهات تنفيذية. وبهذا يمكن منع السياسي من الفساد والانزلاق في شهوات السلطة، ولجم العسكري عن الاستبداد والتمادي في طغيان القوة.

نظرة على الساحة السنية

ساحتنا السنية – في العراق وخارجه – منقسمة اليوم بين مشروع ناقص، وأنشطة بلا مشروع. كما تنتثر فيها أفكار جيدة هنا وهناك. ومعظم الجمهور تائه بلا ربان؛ فلا مشروع ناقص ولا كامل، ولا نشاط ولا فكر ناضج.

في الساحة منظومات حزبية أهمها “حزب البعث”، و”جماعة الإخوان” وذراعها السياسي “الحزب الإسلامي” في العراق، ولها خارج العراق أحزاب بمسميات أخرى. وهاتان المنظومتان ذواتا مشروع ناقص: فكراً وتطبيقاً.

تعاني هذه الأحزاب من أزمة في الفكر الذي هو الأساس في أي مشروع. كما تعاني من اختلال في المنطلقات والأطر التي تحكم الفكر وتوجهه. ومن ذلك:

1. اختلال البوصلة: التي تحدد الهدف، فتتخذ من ألد الأعداء – الشيعة وإيران – أصدقاء، أو يضطرب لديها قانون الأولويات فتقدم العدو الأصغر، الغرب وإسرائيل، على العدو الأكبر، الشيعة وإيران. وهكذا أضاع البعث العراق وسلمه لإيران من حيث لا يريد؛ وكان أحد الأسباب إعلانه الحرب على جميع الأعداء في وقت واحد، ولم ينجح في كسب الأصدقاء والأشقاء. فكانت النتيجة أن جيشهم عليه جميعاً فانفردوا به وأسقطوه. وفي الفخ نفسه سقطت جميع فصائل المقاومة في العراق؛ إذ حاربت الأمريكان وتركت ظهرها مكشوفاً لشيعة إيران.

2. تصلب الفكر: فتقع في فخ الاستنساخ عن بلد المنشأ، وهذا يفقدها المرونة الكافية للقيام بعملية (بلدنة) الفكر فتضيع القضية. وهكذا عجز (الإخوان) – مثلاً – عن (عرقنة) الفكر الإخواني وتطويعه لما يناسب العراق، أو أي بلد آخر خارج مصر. وكان حزب البعث بناءً على خلفيته القومية، التي تجعله بطبيعته خصماً للشعوبية، أقرب للقضية العراقية؛ فقاوم إيران من حيث صادقها الإخوان.

3. غلبة الحماس على البصيرة: وهذا يجعلها جماعات شعاراتية أكثر منها جماعات جدية تحسب لكل شيء حسابه. فترفع شعارات في غير وقتها، وتعلن عن أهداف أكبر من حجمها. فالأحزاب السياسية يغلب عليها الخطاب الحماسي المتقد، الفاقد للأساس الفكري المتزن، والمشروع البنائي المضطرد. ويزداد الحماس اتقاداً لدى الفصائل القتالية. التي إلى الآن لم تعقد مؤتمراً أو ندوة أو لقاء ولو انفرادياً للبحث في سبب تضييع العراق وتسليمه للشيعة وإيران رغم أنها دحرت الجيوش الغربية المحتلة وحلفاءها جميعاً! وهي اليوم تستنسخ التجربة العراقية نفسها في سوريا دون تطوير أو تحوير. والجميع يعد الأمة بالخير ويوعد الغير بالشر.. ولكن دون طائل. والسؤال: ألا تكفي تجربة عشر سنين من الخيبة لمراجعة ما مضى من النجاحات والخسارات؟

والمشكلة أن هذه الجهات جميعاً: سياسية وعسكرية، لا تتقبل النقد ولا تتفهم النصح، وتتخذ من كل مخالف عدواً أو خصيماً. مع أننا لا نعتبرهم خصوماً، بل هم إخواننا ومنا وفينا، على تنوع مستويات قربهم، وإن اختلفنا معهم في فكرنا وأسلوبنا ومشروعنا.

لمحة عن تجربة الإخوان في مصر

انظروا في التجربة المصرية للإخوان. فعلى مدى ثمانية عقود لم تتمكن جماعة الإخوان من تسلم السلطة وقيادة الدولة؛ وذلك بسبب نقص مشروعها ما يجعلها قاصرة عن الوصول وعاجزة عن مقارعة الخصوم. ويوم حكموا مصر لم يستطيعوا الاحتفاظ بالحكم أكثر من عام! ما الذي أسقط د. محمد مرسي، الرئيس الإخواني لمصر؟ مشروع الإخوان، ولا غير؛ لقد كان مشروعهم ناقصاً؛ فالإعلام، والقضاء، والجناح السياسي، والموارد المادية، والمنظومة العسكرية والاستخبارية، لم تكن في أيدي الإخوان. وإزاء هذا النقص الحاد لا يمكن للمنظومات الفكرية والدعوية والخدمية وحدها أن تصمد أمام أي تحدٍّ جدي. لهذا انهار حكم الإخوان بإنذار يتيم من رئيس العسكر، وفي اليوم الأول للإنذار استقال عشرة وزراء من الحكومة!

أما حزب البعث فأقل تماسكاً من الإخوان، وهو مقبل على الانقراض.

أنشطة معزولة

وبين هذا وذاك يوجد عمل خيري وإغاثي، ونشاط إعلامي ودعوي، وحراك فكري وعلمي. ولكنه يفتقر إلى المنظومة الجامعة في مشروع ناضج. فيكون مثلهم كمثل صفوف مدرسية متفرقة لا تجمعها مدرسة ولا إدارة واحدة، ولا تابعة لمديرية مرتبطة بوزارة ونظام واحد.

وهناك عناوين أخرى – مثل هيئة علماء المسلمين في العراق – لا وجود لها خارج نطاق قناة فضائية لهم. وكثير مثلهم ليسوا سوى أصداء على فضاء! فلو ذهبتْ ما أحسست منهم من أحد ولا سمعت له ركزاً. وإن قيل: إن الإعلام نصف المعركة، فإن هذا النصف يبقى معطلاً ما لم يلتحم بنصفه الآخر، مثله كمثل محطة إرسال فاقدة لأجهزة استقبال. إن هذه العناوين في حقيقتها مجرد ظاهرة صوتية، وتبقى كذلك حتى يحين أجلها، وتغادر الساحة كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار أو ليل.

وهكذا تجد معظم الأنشطة نصفية الكينونة؛ فالقتال نصف المعركة، والسياسة نصف المعركة، والإغاثة نصف المعركة، وقائمة طويلة من الأنصاف العاجزة عن الانتصاف من الأعداء، والتعامل بالإنصاف مع الشركاء. والحل لا يكون إلا بمشروع متكامل ينظم هذه المشاريع الناقصة، ويمنعها من التشويش على بعضها. فقد صدق عليها قول الله تعالى: (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة:14). والحظ المنسي هو أجزاء المشروع التي ضُيعت فكان المشروع الناقص هو البديل عن المشروع الناضج. فكانت العداوة والبغضاء والتحريش والتشويش على الشركاء، والعجز عن الانتصار بأكثر من التهويش على الأعداء.

عندها ارفع يديك .. وترقب ساعة النصر

هناك من يرى أن له فكراً ناضجاً، لكنه يعاني من تشويش الآخرين وتعويقهم له ومكرهم به. وغالباً ما توجه أصابع الاتهام في هذا إلى (الإخوان)، ويكثرون من نقدهم وقتل الأوقات في التنفير منهم والتنقير عن أخطائهم وخطاياهم. وهذا لن يجدي شيئاً، بل لا يزيد الحالة إلا نكساً، ولا الوضع إلا تعساً.

نعم.. (الإخوان المسلمون) مشروع ناقص. لكنه برنامج كامل في التشويش والإعاقة لمن ليس له مشروع؛ فصاحب المشروع الناقص يغلب صاحب الفكر الناضج الفاقد للمشروع. وليس الإخوان وحدهم كذلك، بل جميع المشاريع الناقصة، والأفكار المجردة تمارس التشويش والتعويق بعضها ضد بعض؛ فلا لأهلهم نصروا، ولا لعدوهم كسروا. والجميع واقعون تحت طائلة (سنة الإغراء) الربانية التي لا تتبدل ولا تتحول.

وخير من ذلك لكل جهة لم تتجاوز طور الفكرة إلى ميدان النهضة، أن تترك الانشغال بالغير تنفيراً وتنقيراً؛ فالتشويش والتعويق من طبيعة كل جهة ناقصة المشروع: (الإخوان المسلمين) فمن سواهم، فضلاً عن تحقيق النصر على العدو الصائل في غياب المشروع الكامل. وليبادر كل ذي فكر ناضج إلى أن يغادر نطاق الفكر المجرد إلى مجال العمل المسدد في سياق مشروع سليم الفكر، صائب الهدف، محكم الخطة، محسوب الموارد، جيد الإعداد، ثلاثي الأبعاد: القيادة العليا للمنظومة المدنية، والتنفيذ للقيادة السياسية والعسكرية. عندها يرفع يديه إلى السماء: “يا رب .. يا رب!”، وليترقب ساعة النصر؛ فما هي عن العاملين ببعيد.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى