مقالات

ثورة الأنبار

حتى لا يسرق جهادكم للمرة المئة !

د. طه حامد الدليمي

هل لي أن أقول: لقد ارتكب الشيعة حماقتهم في الزمان والمكان الخطأ..! أم ما زال الشوط بعيداً، والأمل ينسج خيوطه، نعم، ولكن وراء الأفق؟

ها هي الأنبار تثور مرة أُخرى!

وكانت شرارة الثورة قد قدحت بهجوم مشين فجر يوم السبت (28/12/2013) على بيت النائب د. أحمد العلواني، قوامه مئات الجنود ورجال المليشيات قدر عددهم بـ(700) علج، وعشرات العجلات والهمرات والمصفحات تسندها (8) طائرات مروحية. وبعد مقاومة غير متكافئة بين الطرفين تمكن المهاجمون من أسر العلواني وقتل أخيه وإحدى النساء وقتل وإصابة (15) من حمايته، وانتهاك حرمة بيته، وكانت الرايات الشيعية الخضر والسود تخفق فوق العجلات، هذا مع الهتافات الطائفية. وقد سبقهم نوري المالكي فقال: “الحرب بين أنصار الحسين وأنصار يزيد”.

أعقب الهجوم مباشرة حشود عشائرية شيعية في كربلاء وديالى وغيرهما مؤيدة له بحجة محاربة (الإرهاب). وألقى رأس الأفعى مقتدى الصدر خطاباً يثني فيه على الجيش بلغة مغلفة بالوطنية مفعمة بالطائفية، دون أن ينطق ولو بحرف فيه إشارة استنكار لما ارتكبه الجيش الغاشم بحق العلواني! وكالعادة بدأ حمير الوطنية بالنهيق مادحين بادحين! جرياً وراء (عنزة ولو طارت)!

كان المشهد مذلاً ومثيراً بكل المقاييس. فتحركت عشائر الرمادي ومنحوا الحكومة مهلة (12) ساعة لإطلاقه، وبعد انتهاء المهلة نزل الثوار إلى الشوارع متَحَدين كاسرين حظر التجوال، فقطعوا الطرق، وسيطروا على الرمادي والفلوجة، وبدأت الأخبار تترى عن خسائر فادحة تتعرض لها قوات الشيعة الرسمية والمليشياوية في الأنبار ونينوى وصلاح الدين، وتحرك للسنة في ديالى وكركوك وغيرها من ربوع السنة. لكن رغم ذلك تمكنت قوات المالكي من دخول ساحة اعتصام الرمادي وأزالت الخيام. وما زالت المعارك مستمرة وفي توسع لتشمل بقية المحافظات.

ما أكثر الدروس ..! ولكن …

وأقف إزاء الحدث بخطوطه العامة، وبتفاصيله أيضاً، فأجدني حائراً لا أدري ما أقول؛ فاللحظة في حاجة إلى تشجيع وشحذ همة، ولكن.. لكن ماذا؟ آه.. في الفم ماء!

لم أقف عند أعتاب مقال كما وقفت أمام هذا المقال! الأفكار تزدحم.. تتضارب.. يكسر بعضها بعضاً.. الآمال تبتسم.. والابتسامة تتوسع.. تتحول إلى تكشير.. يستحيل إلى بصمة على وجه ملبد بالوجوم. والحقائق تشع فأخشى أن تُعمي بلهبها عيون الحالمين، فأقول: أكتمها إلى حين؛ ولكن إلى أي حين، وكل حين يلد حيناً ينسُل أحايين! وينبثق سؤال: إلى متى ونحن نحلُم؟ نحلم وكم من أحد يسأل: أين تأويل الحلم؟

ولو كنا نحلُم وحسب لهان الخطب، ولكننا نعيش أحلامنا واقعاً لا واقع له، فينقلب الواقع الذي عشناه فما رضيناه إلى حلم نتمناه ولا نراه. وهكذا نتقلب بين واقع يتردى وحلم يتأبى، والمسار على طول الخط إلى انحدار. فمن يتصدى لهذا العبث؟

أنظر فأرى الرذيلة تطل من وجوه معظم السياسيين.. وأرى الجهل ينضح من لحى معظم (رجال) الدين.. والتقلب هو سمة عامة شيوخ القبائل.. والحماس غالب على العقل في شتى الميادين.. والخطاب السفيه ينحى منحى تصوير الصراع على أنه داخلي، أو بين الجيش والشعب، وبعض الكبراء نعق بأهل كربلاء والبصرة بما لا يسمعون يريد منهم الوقوف مع أهل الأنبار. حقاً “تموت الدجاجة وعينها على القمامة”!

وأضحكني أسامة النجيفي أمس وهو يعلن انسحابه.. من أي شيء من…. (وثيقة السلم الأهلي) و(وثيقة الشرف).. عن أي وثيقة وأي شرف تتحدث يا نجيفي! حقاً لقد ماتت الضمائر، وتبخرت قطرة الحياء الأخيرة. ولولا الحدث الذي انكشف له آخر رقعة على سوءاتكم لما خرج المخذولون ممن سموا ظلماً وزوراً بـ(سياسيي السنة) والمعاصي تنز من جباههم، وكان أفحل فحل فيهم صالح المطلگ فتصوروا..! يتظاهرون بالوقوف مع أهلهم. تباً لقردة تتهارش على حظوظ تافهة في انتخابات بائسة وأعراضها تنتهك في السجون وأبناؤها يذلون وتداس كرامتهم بشتى الأساليب! كيف يلذ لكم عيش ويهنأ منام وقومكم على هذه الحال؟ شاهت الوجوه.. رغمت المعاطز! ولا نامت أعين الرقعاء!

وما زال هناك أمل، لو …!

ورغم ذلك أقول: ما زال هناك أمل، لو…!

لكن السنة يستنزفون قوتهم في الزمان والمكان الخطأ.. النظر على الدوام زائغ عن اتجاه البوصلة.. والهدف ضائع، والمشروع مفقود.. والسؤال الأهم: وماذا بعد؟ أفي كل مرة يكون الحماس سيد الأجواء، والشباب في كل مرة ومرة يندفعون بلا سؤال؛ فهم كرماء.. كرماء بلا حدود؛ وهل أكرم ممن يجود بنفسه! والكريم يستحي أن يسأل؛ فأين القائد الذي يشعر بمسؤولية كل قطرة دم تراق، وكل أرملة تستيقظ آخر الليل تتلمس مكاناً خالياً لحبيب رحل، وكل يتيم ينظر في الوجوه يبحث عن وجه ما عاد يراه، ولن يراه!

لما فتح معاوية بن أبي سفيان جزيرة (قُبْرُص) سنة (28 هـ) لجّ على عمر بن الخطاب في غزو البحر، فكتب سيدنا عمر إلى عمرو بن العاص: (صف لي البحر وراكبه، فإنّ نفسي تنازعني إليه). فكتب إليه عمرو: (إني رأيت خَلْقًا كبيرًا يركبه خلْقٌ صغير، إن رَكُن خَرَق القلوب، وإن تحرّك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قِلَّة، والشكّ كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غَرِق، وإن نجا بَرِق)، فلما قرأه عمر، كتب إلى معاوية: (لا والذي بعث محمدًا بالحق، لا أحمل فيه مسلمًا أبدًا). وآخر المطاف يأتي فلان وفلان، وبحجة حقن الدماء التي سعوا هم في سفكها، فيضعون أيديهم بأيدي قاتليهم ويقولون: “عفا الله عما سلف”، بل ويثنون على عتاة المجرمين وكبراء القتلة والمارقين، ومقتدى مثال واضح فاضح!

يؤسفني أن أقول لكم ما قاله كعب بن أسد سيد بني قريضة لقريضة وقد سألوه: ما تراه يصنع بنا؟ فقال لهم: “أفي كل موطن لا تعقلون! أما ترون أنه من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل. وقد دعوتكم إلى غير هذا فأبيتم”. عند ذلك قالوا: “ليس حين عتاب”.

نعم، ليس حين عتاب، ولكن أي حين هو حين…؟

ورغم ذلك أقول: ما زال هناك، أمل لو…!

والتأخر هو سمة الحضور على الدوام، والارتجال سيد الموقف، والفكر الوطني يتعفن في رؤوس كثيرة فلا يزيدها إلا خبالاً ولا يورثها إلا وبالاً..

قبل عام – وكانت صولة (الحراك) في عنفوانها وقد تزلزلت لها قلوب الطغاة وعروشهم، واهتزت رؤوس العملاء وذيولهم – قلنا لكم: اقطعوا الطريق على جيوش المالكي، استولوا على أسلحتهم، وخذوهم أسرى تساومون بهم على أسراكم. وقلنا لكم: ارفعوا راية “السنة” ودعوكم من رقاعة (الأخوية).

وقبل عام قلنا لكم: اختصروا المطالب كلها بمطلب واحد هو (الإقليم).

وقبل عام قلنا لكم: دولوا قضيتكم وباسم (السنة) لا غير.

وقبل عام قلنا لكم: مطالبكم لن تتحقق لسببين: الأول: أن الشيعة تريد إنهاءكم فكيف تجيب حكومتهم مطالبكم. والثاني: أن المطالب هي بذاتها غير ممكنة أو صعبة التحقيق لكونها غير قانونية وإن كانت عادلة؛ فأنتم تطالبون الحكومة، والحكومة تجيبكم: لا بد أن يكون ذلك طبق الدستور والقانون؛ وعليه فإما ترضخون لجوابها فلن يتحقق شيء، وإما تخرجون من هذا المأزق إلى طريق آخر، وعرضنا عليكم حلولاً. وسؤالي هنا: أيعقل أنه لم يكن من بين هذه الحشود رجل قانوني واحد يدرك ذلك فينصحكم كما نصحناكم؟ أم إن الحقيقة المرة لا يجرؤ أحد على قولها فيفضل التهريج مع المهرجين. وليس سوى الخطب النارية والهتافات الحماسية!

وقبل عام قلنا لكم: الطريق مسدود أمامكم، وأنتم بين خيارات ثلاثة لا غير: الإقليم أو التسليم أو الحرب والتقسيم. فأسألكم بالله: هل كذبناكم فيما قلنا؟ وهل صدقكم المهرجون والهتافون؟ اسألوا الأيام تجبكم. وأنا أعلم أن هناك من يقول: “ليس حين عتاب”. وأقول: نعم، ليس حين عتاب، ولكن أي حين هو حين…؟

ورغم ذلك أقول: ما زال هناك أمل، لو…!

ورغم كل شيء أقول …

كلما نظرت إلى الواقع وقلت: كان الدرس بليغاً وجدت المشهد التالي: الشيعة يرتكبون الحماقات والسنة يلتمسون لهم المخارج والمبررات؟ ورغم ذلك أقول…!

ورغم هذا كله وغيره، وهو كثير، أقول: إن وبيصاً من الأمل ما زال يرسل إشاراته من وراء الأفق، وهو يقترب باستمرار وإن ببطء؛ لأن الشيعة يرتكبون حماقتهم ويرتكبون، ورغم أن التردد والتأخر والحيرة غالبة على الطرف الآخر إلا أن بقية من ناتج تصفو بأيدينا في نهاية المطاف. ولولا ذلك لما كانت هناك أدنى نأمة لأي صحوة، ولذاب السنة وإن تأخر زمن ذوبانهم؛ وواأسفاه إذ أجدني في كل مرة أقول: من لم يأت به نور الوحي جاءت به سياط القدر.

فهل حقاً ارتكب الشيعة حماقتهم هذه المرة في الزمان والمكان الخطأ؟ وهل أصبح السنة هذه المرة قادرين على استثمار الحدث ليحولوا حماقة الشيعة الأخير إلى آخر حماقة في واقعنا المرير؟

المعارك غير المتكافئة منذ ثلاثة أيام تدور في الرمادي والفلوجة ومناطق أُخرى في الأنبار وبقية المحافظات السنية بين طرف شيعي حدد هدفه وأعد وسيلته وأقبل بخيله ورجله، وطرف سني يفتقر إلى السلاح والعتاد، والإعداد والإمداد، إلا من كونه على الحق. وهل أحقية القضية تكفي ما لم يكن استعداد بقدر الاستحقاق لانتزاع الحقوق من الحلوق.. ما لم يكن مشروع؟

على أن الكفة ما زالت راجحة إلى جانب أهل الحق، والأخبار تترى عن انتصارات وعمليات عسكرية شجاعة ترفع المعنويات وتجبر الخاطر وتقرب الأمل. وما زلنا في البداية والمعركة ليست مع شيعة العراق فقط، بل إيران وشيعتها حاضرة في الميدان. وهناك أخبار عن وصول قوات (النخبة) الإيرانية إلى كربلاء لتدخل الأنبار عن طريق النخيب، ودخول قوات من (الحرس الثوري) إلى البصرة متوجهة إلى كربلاء. والمعلومات تفيد بأن قسماً منهم سيرتدي زي الجيش والقسم الآخر زي مليشيا (سوات). والسفير الإيراني في بغداد يستدعي (!) رئيس الوزراء نوري المالكي إلى مكتبه ليجتمع به.

احذروا سفاهة الجاهلين

تأملوا كيف يتم التصرف مع أسرى جنود المالكي؟!!!

يُكرمون أشد الكرم ويستقبلون في المضائف تمنح لهم الثياب ويطعمون اللحم والدجاج؛ وكأنهم كانوا عنا يدافعون! ثم يخيرون بين البقاء وبين الذهاب إلى أهاليهم؛ بحجة أن هذه هي التقاليد العربية الأصيلة! فهل التقاليد العربية بالضد من الدين والسياسة؟

أما الدين فيقول تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال:67). بل قال تعالى بعدها مباشرة يعاتب نبيه أشد العتاب في إطلاق أسرى بدر وأخذ الفداء منهم بدل قتلهم: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (الأنفال:68)! ومع ذلك لم يسلموا من العقوبة؛ يقول ابن كثير: “فلما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون وفر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه”. أفنحن أكرم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نعاقب بتكرار الحماقات، وتوالي السفاهات؟ لقد عوقبوا بسبب أخذهم الفداء من الأسرى، فكيف ولا فداء، إنما إطلاق مع إكرام!

بخ بخ لكم أيها الشيعة! ونخٍ نخٍ لكم أيها السنة!

وأما السياسة فنذكر منها أمرين فقط: أولهما: مطلوب اليوم أخذ أكبر عدد من أسرى الشيعة للمساومة بهم مقابل أسرانا في سجونهم نساء ورجالاً. قال الإمام الشافعي في (أحكام القرآن) عن الْبَالِغِينَ مِنْ السَّبْيِ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ فِيهِمْ سُنَنًا: فَقَتَلَ بَعْضَهُمْ، وَفَادَى بِبَعْضِهِمْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ.إ.هـ. فكيف يخفى على عاقل هذا المقصود العظيم لا سيما ونحن أحوج ما نكون إليه!! وإلا لينتظر السنة لأسراهم مصيراً كمصير أسراهم في إيران! وثانيهما: أن هذا الكرم السفيه سيشجع هؤلاء الأسرى على الرجوع إلى مقاتلتنا مرة أخرى في هذه المعركة، أو معارك قادمة دون خوف من أسر أو قتل؛ فقد قيل: “من أمن العقوبة أساء الأدب”.

حتى لا تسرق الثورة

ويبقى السؤال الأهم: وماذا بعد؟

فلا بد أن تنتهي المعركة ويجلس الفرقاء على طاولة التفاوض. فهل ستتم تسوية الأمور بتبويس اللحى و”عفا الله عما سلف”، ونرجع مع الشيعة تحت حكومة مركزية تظلمنا وتذلنا باسم (العراق) ، وتذهب كل التضحيات سدى “لخاطر عيون العراق”؟

أيها السنة العرب، إياكم والحل (الوطني) الخائب! اجعلوا الحل سنياً لا (وطنياً). فـ(السنية) هي هويتكم الحقيقية في مقابل (الشيعية) و(الكردية).

وحتى لا تسرق ثورتكم، وحتى لا تسلب جهودكم للعام الحادي عشر بعد العام الثاني والثمانين، وللمرة المئة: احذروا سفاهة الأغبياء، فلا ترضوا بأقل من (الإقليم). هذه فرصتكم لتأسيسه وإجبار الخصم على القبول به.

لقد انتهى (الحراك) بعد عام كامل إلى لا شيء، وها قد وقعت الواقعة ونشبت المعركة فلا تتركوا المجال لسفهاء (الأخوية) يقودون مسيركم ويتحكمون بمصيركم، ويتكرمون بزكي دمائكم على من أذلكم وانتهك أعراضكم.

لتكن رايتكم سنية، وأرضكم سنية.. خوضوا معركتكم باسم الله، وارفعوا رايته المتفردة، ولا تخلطوها بغيرها من الرايات؛ فـ(لله الدين الخالص)، الذي لا يقبل من أحد ديناً سواه.

الأربعاء

28/2/1435

1/1/2014

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى