مقالات

الفكر الوطني في خدمة الثالوث العالمي

د. طه حامد الدليمي

عندما زالت الخلافة انقسمت الأمة فكرياً إلى قسمين أساسيين متناحرين: إسلامي ديني، وقومي علماني. وكان الفكران نتاج ردة فعل على الواقع الجديد الصادم لثقافة الأمة بكل معنى الكلمة! وردة الفعل – بطبيعتها– يغلب عليها الارتجال؛ ما يتطلب من أصحاب الشأن بعد ذهاب الفورة تطوير الفكرة وتعديلها طبقاً لقاعدة معلومات متكاملة وبما يتناسب والواقع المتغير. لكن هذا – كما يبدو– لم يحصل، فلم يجر تطوير إيجابي فاعل لأي من الفكرين. بل حصل – فوق ذلك – تراجع خطير انتهى بالفكرين (الإسلامي والعلماني) إلى أن يتحولا إلى تركة ثقيلة ينوء الجمهور بحملها ويدفع لذلك تضحيات باهضة لا نتيجة لها.

بل صار الفكران في خدمة الثالوث العالمي: الصفوي – الصليبي – الصهيوني!

فكر أممي جامد

الفكر الإسلامي ينحى منحى الأممية العالمية على حساب الأمة العربية، فيتجاهل لذلك قاعدة (الأقربون أولى بالعروف) المأخوذة من قوله تعالى: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الأنفال:75) فقصّر في مستحقات (الأقربين) من العرب وأبناء الوطن، يزيد الطين بلة إفرازات صراعه مع العلمانيين من القوميين وأمثالهم. والفكر القومي ينحى منحى الأممية العربية على حساب الأمة القطرية.

وفات الاثنين أن الفكر، وإن كان أممياً من ناحية التنظير، ينبغي أن يكون محلياً من حيث التكييف والتوظيف على قاعدة (فكر عالمياً وتصرف محلياً).

وهكذا فشل الفكران في خدمة الأمة الأبعد والأمة الأقرب، فالإسلاميون فرطوا في حقوق أمة العرب انشغالاً بوهم أمة الإسلام، والقوميون – لاسيما في العراق – فرطوا في حقوق الوطن انشغالاً بوهم أمة العرب. كما فشلا أساساً في إنتاج فكر مرن يتكيف مع الواقع ويعترف بخصوصيته. وهكذا خرجنا من المعادلة العربية والوطنية، فضلاً عن الإسلامية التي نحن خارجها من البداية!

إدخال إيران والشيعة في معادلة الأمة

هذا كله من ناحية. أما الناحية الثانية الخطيرة: فإن الفكر الإسلامي أدخل إيران والشيعة في معادلة (الأمة الإسلامية)، فكان مثله كمثل الذي يحمل الحزمة على ظهره بما فيها من أفاعي حرصاً على ثقل وزنها في سوق البيع. ثم إنه نتيجة الهزائم والنكبات المتوالية أمام الدولة العلمانية بفكرها الوطني، وبفعل اليأس والإحباط نتيجة طول الأمد دون تحقق أهدافهم في الوصول إلى الحكم، حصل تغيير جذري وانحراف تام عن الأصل حين تحولت (الحاكمية) إلى الحكم، جنباً إلى جنب التأثر العام بالفكر العلماني الوطني عن طريق عملية نفسية جمعية لا واعية هي (التماهي بالمضطهد)، فانقلب الفكر الإسلامي إلى فكر علماني بحجة الحكم كطريق للحاكمية، وإلى فكر وطني يقدس حدود سايكس – بيكو على حساب حدود رب العالمين!

أما الفكر العلماني فأدخل الشيعة في معادلة (الأمة العربية) ناظراً إلى العروبة على أنها مادة من لحم ودم، لا روحاً قوامها الانتماء والهم. وهذا النظر الساذَج يعني بالتبع دخول إيران إلى صلب المعادلة؛ وذلك من خلال امتطاء ظهور الشيعة. صحيح أن القوميين يعادون الفرس، وهم أقرب إلى قضيتنا من الإسلاميين المنفتحين من الأصل ليس على الشيعة فحسب وإنما على إيران أيضاً، لكن تشيعهم السياسي يجعل إيران في أصل المشروع من حيث أن الشيعة يعملون ذاتياً كـ”حصان طروادة” في جلب إيران إلى المنطقة.

الجديد في الأمر اجتماع الفكرين على تجاهل (السنة والسنية) وازدرائها ومحاربتها بحجة (الوطن والوطنية). بمعنى أن الفكرين انتهيا إلى ما يلي:

1. الانكماش من العالمية والقومية إلى الوطنية.

2. عدم الاكتفاء بالتفريط بالمسلمين والعرب نتيجة أوهامهم وفلسفتهم اللاواقعية حتى صارا يمارسان اليوم عملية غبية غاية في الخطورة وهي التفريط بأهل السنة بحجة الوطن. فبعد أن تم تفريط الإسلاميين بالعرب بحجة الأمة الإسلامية، والقوميين بالوطن بحجة الأمة العربية، جاءا اليوم ليقضيا على آخر أمل للأمة وهو السنة تحت وهم الوطن.

وهذا هو مراد الثالوث العالمي!

مراد الثالوث العالمي

اكتشف الغرب قبل حوالي نصف قرن أن عدواً للأمة من داخلها هو أجدى في محاربتها من اليهود وذلك للأسباب التالية:

1. الرفض الذاتي لقبول اليهود. وقد فشلت جميع عمليات “التطبيع” في أن تجعلهم مقبولين عند جماهير الأمة عربياً وإسلامياً. بينما يتمتع الشيعة بنسبة قبول كبيرة مؤثرة.

2. الحجم العددي للشيعة أكبر من حجم اليهود بما يقرب من عشر مرات.

3. استعداد الشيعة وإيران لأداء الدور المطلوب أكبر من استعداد اليهود؛ فالشخصية الشيعية الفارسية أكثر حقداً وطلباً للثأر والانتقام من الشخصية اليهودية، وإيران ما زالت تعيش أساطير الحلم الإمبراطوري المفقود. وهو أكبر من حلم أسطورة اليهود في إقامة دولة لهم من الفرات إلى النيل، وأكثر واقعية.

والأمة – بطبيعتها – أمة السنة، فالأمة هي السنة والسنة هم الأمة. إذن لتضرب الأمة من داخلها بالشيعة. وهكذا التقت الإرادتان الصليبية والصهيونية بالإرادة الصفوية، ونشأ الحلف الخطير. وكانت أول خطواته – كما يبدو لي – إرسال الإيراني موسى الصدر من قبل شاه إيران إلى لبنان في أوائل السبعينيات، وأول نتائجه تمكين الغرب للخميني في أواخرها من حكم إيران ورفعه شعار “تصدير الثورة” باسم الإسلام. وقد هلل الإسلاميون والعلمانيون كلاهما – والاستثناء محفوظ للبعض – ورحبوا بهذا الحدث الجديد!

لا بد من إخفاء ( السنية ) لنجاح المؤامرة العالمية

من شروط المعركة الجديدة، بوجهيها المدني والعسكري، أن يبقى دور الشيعة خفياً، حتى لا ينتبه لحقيقتها، ولا تكتشف أهدافها. فلو انتبه الجمهور إلى حقيقة الدور الشيعي في تنفيذ المؤامرة فإن ذلك يثيرهم ضد الشيعة فتضعف نتائجها ويبطل مفعولها. وهذا يستلزم الابتعاد عن إبراز العنوان الشيعي، وكذلك العنوان السني في المقابل. وقد وجدوا أن تهمة “الطائفية” وإلصاقها بمن يتحدث بذلك هي أفضل وسيلة لإخفاء هذا العنوان وجعل الجمهور يبتعد عنه ويهرب منه. وفي الوقت نفسه يبرز العنوان (الوطني) كبديل ملمع ومقبول.

وبلع الإسلاميون والعلمانيون الطُّعم كلاهما. فصاروا – رغم فكرهم الأممي – ينافحون بضراوة عن “الوطنية” ويحاربون أو يتجاهلون “السنية”. مع أن أي ناظر يدقق قليلاً في مجرى الأحداث التي تجري في قلب أمة العرب في العراق والشام واليمن يجد إبادة منظمة يقوم بها إيران وشيعتها ضد السنة بتواطؤ عالمي ليس مكشوفاً فحسب وإنما مفضوح إلى حد “الاستعراض”! مع الحرص على تجنب العنوان الحقيقي للمعركة.

المعركة ضد السنة عالمية

المعركة اليوم معركة خطيرة جداً؛ فهي معركة عالمية يقودها الغرب والشرق، موجهة ضد الأمة أي أهل السنة حصراً، على يد الشيعة حصراً: الاثني عشرية في العراق ولبنان، والنصيرية في سوريا، والحوثية في اليمن. أما بقية أقطار العرب فتنتظر الدور ببلاهة، والمؤامره بوجهها السلمي الناعم جارية دون توقف، وكأنهم هم المقصودون بقوله تعالى: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) (الحجر:72،73). هذا مع تغييب متعمد للسنة عن العنوان والميدان؛ فهم يخوضونها بعناوين وهمية.

والمعركة ضد السنة داخلية أيضاً؛ فالوطنيون (إسلاميين وعلمانيين) يشاركون فيها بقوة؛ وذلك بإعطائها عناوين زائفة لا تمثل العنوان الصحيح الجدير بحمل راية المعركة والانتصار فيها.. العنوان الوحيد القادر على تجييش طاقات الأمة وحشدها ضد العدو.. العنوان الذي يعبر عن روح الأمة ومنبع طاقتها ومثار غيرتها، وهو (السنة) في مقابل (الشيعة) وصولاً إلى إبطال المؤامرة العالمية وإفشالها. وسواء كان ذلك عن علم أو جهل فالنتيجة واحدة.

وهنا لا يكون الجهل خطأ بل خطيئة.

21/1/2014

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى