مقالات

من هؤلاء ؟

د. طه حامد الدليمي

أسماء خطها لوح الزمان بقلم القدر

1 ـ أسعد بن زُرَارة

2 ـ عوفُ بن الحارث بن رفاعة، ابنُ عَفْراء

3 ـ رافع بن مالك بن العَجْلان

4 ـ قُطْبَة بن عامر بن حديدة

5 ـ عُقْبَة بن عامر بن نابي

6 ـ جابر بن عبد الله بن رِئاب

وقفت طويلاً أمام هذه الأسماء.. أتساءل ستةً بستة:

  1. كم منا يعرفهم: بأسمائهم، ثم بسيرتهم؟
  2. ما الرابط الذي يجمع بين هؤلاء الستة؟
  3. ما أسرار القدر الذي جمعهم؟
  4. ما هو انعكاس تلك اللحظة القدرية التاريخية على واقعنا؟
  5. هل ندرك كم لهم من فضل في أعناقنا؟
  6. أشياء وأشياء لا يمكن حصرها.. أشجان وأشواق، أحلام ورؤى طافت بهتيت قلب لا يقرأ السيرة إذ يقرأها وإنما يعيشها بنبضه الرقيق، ولحظه الدفيق، وفكره الواثق وخياله المرفرف عالياً فوق أجنحة التاريخ، والغائص عميقاً في جذور الواقع الذبيح.

وعدت بذاكرتي إلى الوراء عشرات من السنين، يوم كانت كتب (السيرة) زادي وشاغلي. ثم أنظر إلى الحاضر وكيف سحبته شيئاً فشيئاً زمر السنين، بما فيها من صراع وتحدٍّ وبحث وجدل، بعيداً عن تلك الأجواء الندية، فانقطع النظام الذي كان يسلك تلك الدرر الست فتفرقت بين زوايا ذاكرة أنهكها الزمن، وأثقلها الفكر فما عادت تحتمل ما كانت تحتمله أيام كنا والهوى خضلُ، ولحظ الوصال يناغي دارة القمر.

ألا ليتَ أيامَ الصفاءِ جديدُ ودهراً تولى يا بُثينَ يعودُ

ثم أعلل النفس بأن الفكر والبحث في حقيقة الدين، والجدال عن الحق المبين بوجه فلول الشرق من أعظم الجهاد، فأهدأ قليلاً ثم أقول: وما يمنع أن أخلط الطيب بالطيب؟ ويتحرك القلب وتختلج الجفون.. ليتني معكم يا شباب الخزرج يوم مر بكم رسول الله ومعه الصديق بعقبة منى، فسمع أصواتكم فلحقكم، حتى إذا حاذاكم دار بينكم حوار سجله لوح الزمان بقلم القدر‏:‏ ‏

  • (‏من أنتم‏؟‏‏)‏
  • نفر من الخزرج
  • ‏(‏من موالى اليهود‏؟‏‏)‏
  • نعم‏
  • ‏(‏أفلا تجلسون أكلمكم‏؟‏‏)‏
  • بلى

وجلسوا معه – وكانوا من عقلاء يثرب، أنهكتهم الحرب الأهلية التي مضت قريبًا، والتي ما يزال لهيبها مستعرًا، فأملوا أن تكون دعوته سببًا لوضع أوزارها وانطفاء أُوارها. فشرح لهم حقيقة الإسلام ودعوته، ودعاهم إلى الله عز وجل، وتلا عليهم القرآن‏.‏

  • تعلمون والله يا قوم، إنه لَلنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه، فأسرعوا إلى إجابة دعوته، وأسلموا‏.‏

قال ذلك بعضهم لبعض‏. وكان من سعادة أهل يثرب أنهم كانوا يسمعون من حلفائهم من يهود المدينة، إذا كان بينهم شيء، أن نبيًا من الأنبياء مبعوث في هذا الزمان سيخرج، فنتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرم‏.‏

  • إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين؛ فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك‏.‏

كان ذلك في موسم الحج من سنة 11 من النبوة/ يوليو سنة 620 من ميلاد المسيح . ومن يومها تغير مسار الأحداث وتحول خط التاريخ‏.‏ فما إن رجع هؤلاء إلى المدينة حتى حملوا إليها رسالة الإسلام، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيه ذكر رسول الله ‏!

ثم كان موسم الحج التالي فكانوا اثني عشر، بايعوا الحبيب (بيعة العقبة الأولى) فأرسل معهم الداعية المفوه النجيب مصعب بن عمير فجاء بهم في الموسم الذي يليه أكثر من سبعين، ومعهم امرأتان، بايعوا الرسول القائد (بيعة العقبة الثانية)؛ فكانت الهجرة التي أجمع الصحابة على أن تاريخ الإسلام بها ابتدأ!

والبداية كانت من أولئك النفر الستة. فيا لله كم لهم من فضل في أعناقنا! ومن منة في رقابنا!

أبشروا فالنصر قادم ما عملتم له بمشروع

بين جبال صماء وأرض جرداء وقوم لم يستجب منهم إلا القليل، يقف رجل واحد بين ستة أنفار يعدهم بالنصر ويبشرهم بدين عالمي ودولة تملك العرب وتدين لها الأمم.. أيعقل هذا؟ وهل من أحد في ذلك الزمان والمكان، كائناً ما كان عقله وخياله يمكن أن يطوف بباله ذلك المستقبل على هذه الصورة؟ اللهم لا؛ إلا أن يكون وحياً من عندك.

ما وقفت حِيالَ (شهداء أُحد) إلا وكان لي عندهم مشهدان: مشهد للقلب والنبض، ومشهد للعقل والفكر. أما مشهد القلب فها أحد شواهده مختصراً مبتسراً: وقفت بعد موسم حج 1426/يناير 2006 عند أجداث الشهداء، وكنت مريضاً أنهكني السعال وأخذت الحمى من جسدي مأخذها، أجرجره، وأستثير مكامن الشجو في داخلي فلا يكاد يجيب من شدة الإعياء، لحظتها أيقنت – بعد موقف مشابه في حضرة الحبيب وصاحبيه – أن الشعور الحميم في الجسم السليم.. وتحاملت على عيني فكانت لغتي المعبرة، ولم يسعفني لساني بأكثر من إنشاء بيت عراقي، وقريباً مني كان صاحبي د. قحطان الذي أقلني بسيارته إلى هناك، وليس من أحد غيرنا في ذلك المكان الذي كان غارقاً في السكون:

على هذا الدربْ مرَّتْ خطاهمْ (خُطاهم)

وْدليلي عَ المُواهسْ ما خطاهمْ (لم يخطئهم، والدليل: القلب، والمواهس: العلامات الدارسة)

سْلِبَـوا عگلي وْرموني مو خطاهمْ (ليست الخطيئة خطيئتهم)

أنا المجنونْ والجاني أناْ

نعم.. هنا يصمت اللسان، وتنطق العين.

وأما مشهد العقل فما وقفت مرة هناك، ورأيت معالم المعركة، ونظرت إلى التلة الصغيرة التي طالما قرأت عنها في السيرة باسم (جبل الرماة)، ثم صعّدت ببصري إلى جبل أُحد: إلا وقلت: كيف لرجل في ذلك الزمان وفي هذا الموضع الغائب في مجاهل الأرض، يفكر بدولة عالمية تنطلق من هنا؟!!! وعلى يد هذه القلة، التي لم يسمع بها أحد من العالمين، ولا أثر لها في تسيير أو تغيير مسار أي حدث من أحداث ذلك العهد من التاريخ؟!!!

ولكن أليس هذا هو الذي حدث؟ بلى، وليس غيره من جواب. وكانت البداية من أولئك النفر الستة من شباب الخزرج يوم مر بهم رسول الله ومعه الصديق بعقبة منى، فسمع أصواتهم فلحقهم، حتى إذا حاذاهم دار بينه وبينهم حوار سجله لوح الزمان بقلم القدر‏.. فكان ما كان!

فكيف ييأس مسلم يقرأ السيرة، ويؤمن بالقدر مهما قل العدد في أي لحظة من اللحظات، وموضع من الأرض؛ ما دام هناك عمل وأمل، وهناك مشروع وخطة، وهناك سبب وقدر؟ ‏ولقد قالها لي أحد الذين كانوا معي في يوم من أيام صيف 2008:

  • نحن قلة!
  • بل كثرة، ولك أن تعد (وعدّ: فلان وفلان حتى قال:)
  • أربعة
  • وفلان وفلان، فها أنتم ستة
  • وما يغني ستة؟
  • وأنا معكم فقد صرنا سبعة.. عدة (أصحاب الكهف). وما يهزم سبعة من قلة متى ما توكلوا فعملوا وأمّلوا.

لكن‏ ثقلة الطين – كما يبدو – جذبته فأخلدت به إلى الأرض بعيداً عن رفعة الروح؛ فانقطع ومضينا.

ووالله إني لأكاد من مكاني هذا أسمع أصواتهم، فتطير روحي لتلحق بهم، وكأنهم ما زالوا في مكانهم ذاك من (عقبة منى). ثم أرجع إلى نفسي فأقول: وما يمنع أن نكون من ذلك (الجيل) لكن الله اختارنا لعصر آخر نحن (صحابته) وأصحابه؛ أوليس (في كل عصر صحابة)؟ أولئك (السابقون السابقون): (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ) (الواقعة:13،14). فصحابة سبقوا، وصحابة تأخروا ليؤدوا الأمانة ويسلموا الوديعة ثم يلحقون. لا يخلو منهم زمان، ولا يفرغ مكان. وما زال ربنا – كما أخبر ووعد – يغرس هذه (القلة) أبد الدهر ما أشرقت شمس وأطل من وراء حجابها القمر. خبر لا يُكذب، ووعد لا يُخلف.

فأبشروا يا رجال القادسية و(تيار السنة)؛ إني لأستشرف سجف الغيب فألمح شعاعاً من (السُّهى) يلتمع فأرى في خيط نوره المرتعش مشروعاً قد سجله لوح الزمان بقلم القدر‏ فكان منه ما كان. وسيكون منه ما يكون بإذن الله رب العالمين.

18/3/2014

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى