مقالات

هذه هي الحرب

بين بدر وفتح مكة أُحد والخندق .. ولا تنسَوا حنين ..!

د. طه حامد الدليمي

الحرب عبارة عن سلسلة معارك.. لا معركة واحدة فقط.

والمعارك لا تكون على وتيرة واحدة ولا نمط واحد. فقد تتلاحق انتصارات تتخللها هزيمة، أو هزائم يبرز من بينها انتصار. لهذا قال العرب قديماً: “الحرب سجال” أي مرة لك ومرة عليك. وكل حدث يجري على سنَن يختلف عن الآخر في زمنه وجهده وتفاصيله. فلا تحدد نتيجة الحرب بمعركة واحدة أو عدة معارك. بل ولا تتحدد هذه النتيجة بالمعارك العسكرية وحدها. فالنصر والهزيمة في الحرب حاصل جمع وتفاعل بين معارك ذات طبيعية عسكرية وأُخرى مدنية؛ فالسياسة والدبلوماسية والخدمات وطبيعة المجتمع وما فيه من قوى – مثلاً – عناصر أساسية تتفاعل مع بقية عناصر الحرب وتؤثر بقوة في النتيجة النهائية.

معركة ( بدر ) ودرس المال الأول

كانت معركة (بدر) أولى المعارك في تاريخنا الإسلامي، انتصر فيها المسلمون بقيادة النبي محمد انتصاراً بهر الأعداء والأصدقاء! وسماها القرآن (الأنفال:41) بـ(يوم الفرقان) تعبيراً عن عظمتها. ونزلت سورة (الأنفال) توثق تلك المعركة وتسجل أهم دروسها. ومن أهمها المنهجية التي تنظم علاقة المسلم بالمال، فقال تعالى في فاتحة السورة: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأنفال:1): فلا يكونن المال عامل تفريق وضعف؛ فليس هذا من شأن المؤمنين الحقيقيين، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال:2)، شأن المؤمنين (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) (الأنفال:3) أن ينفقوا لا أن يأخذوا: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الأنفال:3): فلا تكون النية متوجهة أولاً إلى الأخذ، وإنما إلى البذل: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال:4). ثم جاء الجواب عن السؤال في أول السورة: (يسألونك عن الأنفال) بعد أربعين آية: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (الأنفال:41)! وفي رأيي أن هذا التأخير هو لأجل التهوين من شأن المال في نفوس المؤمنين؛ فكأن السؤال لا يستحق الاهتمام فيبادر إلى الجواب عنه؛ هناك ما هو أهم أيها المؤمنون!

معركة ( أُحد ) .. القانون لا يرحم المخالفين

فإن لم تؤخذ تلك المنهجية – أو ذلك الدرس – بعين الاعتبار فإن مفاجآت غير سارة تنتظر المنتصرين! وهكذا كان.. فجاءت معركة (أُحد) على غير ما يشتهي المؤمنون، وعلى غير ما يتوقعون: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:165). وكانت سورة (آل عمران) سجلاً ضخماً لدروس وأحداث تلك المعركة التي خسرها المسلمون وإن كانت بقيادة النبي محمد نفسه! وكان التذكير بالدرس الذي خالفه البعض فعمت مخالفتهم الكل حاضراً في السورة، فبينت أن الجنة إنما (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:133) من هم؟ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) (آل عمران:134)، فكان إنفاق المال، لا أخذه أول وصف لهم عند التعريف بهم. وهذا الدرس من أهم دروس المعارك؛ بحيث خسر المسلمون هذه المعركة بسبب مخالفة بعضهم له فلم يرحمهم القانون الرباني! وقد تكررت في التاريخ الإسلامي مخالفات مشابهة نتجت عنها خسارات، كان أقساها ما حصل في معركة (بلاط الشهداء) في سهل فرنسا الجنوبي، التي لو لم يخسرها المسلمون لانفتحت أوربا كلها أمامهم. والسبب هو هو، نسيان الدرس، درس المال!

معركة ( الأحزاب ) .. الثبات في الزلزلة ؛ فكان النصر

وبعد (أُحد) كانت معارك ربحها المسلمون. حتى كانت معركة (الخندق أو الأحزاب) التي حوصروا فيها من الخارج بجيوش المشركين، ومن الداخل باليهود والمنافقين: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) (الأحزاب:10،11). وثبت المسلمون فكان النصر الذي أفرح المؤمنين (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) (25-27).

( فتح مكة ) يعقبه ( حنين ) .. لا غرابة ؛ فالعبرة بالنتيجة

وتستمر المعارك حتى (جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) (النصر:1) ودخل المسلمون مكة فاتحين. وبعد أيام كانت (حنين) فكانت أشبه بـ(أُحُد) لولا أن النهاية كانت نصراً مؤزراً للمسلمين: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) (التوبة:25،26).

وهذا يؤكد بوضوح ما قلته من أن “الحرب عبارة عن سلسلة معارك. والمعارك لا تكون على وتيرة واحدة ولا نمط واحد…” إلى آخر ما جاء في ديباجة المقال.

وأقول: فرحنا بفتح الموصل، وحق لنا ذلك، كما فرح المسلمون بـ(بدر)، وتفاءلنا.. ولكن تفاؤلاً حذراً؛ فما زال الشوط أمامنا طويلاً، والمعركة في أولها. فلا تتفاجأوا إن طالت، أو حصل فيها تعثر وخسارات بينية؛ فهذه هي طبيعة الحرب، ولا تحَدد نتيجة الحرب بمعركة واحدة أو عدة معارك. بل ولا تتحدد هذه النتيجة بالمعارك العسكرية وحدها. ولسنا كالصحابة ولا كشهود معركة (البلاط)!

هذا، وكل شيء وارد؛ فقد ينهار الشيعة مرة واحدة.. ويدخل السنة بغداد مهللين مكبرين (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:4،5)!

الثلاثاء

17/6/2014

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى