مقالات

بين الخلافة والإمامة شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن (2)

د. طه حامد الدليمي

قال سبحانه عن آدم u: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة:30)، وفي نص مشابه في السورة نفسها يشتبك معه بأكثر من علاقة يخاطب الله تعالى إبراهيم u قائلاً: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) (البقرة:124). لكن لنا هنا ملاحظتين تأمليتين:

الأولى: أنه سمى آدم (خليفة) بينما سمى إبراهيم (إماماً).

والثانية: أنه قيد الخلافة بـ(الأرض)، بينما قيد الإمامة بـ(الناس). فكان آدم (خليفة في الأرض) في حين كان إبراهيم (إماماً للناس).

ولا بد أن يكون لهذا التفريق من فرق استدعاه.

عندما نتتبع كلمة (خليفة) نجدها وردت في الكتاب الكريم مرتين فقط: مرةً وصفاً لآدم u، وذلك في الآية السابقة، ومرة وصفاً لداود u، وذلك في قوله تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) (ص:26) وفي المرتين يرد تقييد الخلافة بالأرض.

فلماذا هذا التقييد؟

ووردت كلمة (إمام) في الكتاب مرتين أيضاً: مرةً عن إبراهيم في الآية السابقة، ومرةً عن عموم المؤمنين في قوله سبحانه: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان:74)([1]). وفي المرتين علقت كلمة (الإمام) بالناس لا بالأرض: لكن في الأولى بعموم الناس، وفي الثانية بخصوص المتقين.

فلماذا هذا التعليق؟

إن تعليق الخلافة بالأرض – والله أعلم – لأن الخلافة موضوعة أساساً لإعمار الأرض وتنميتها بأنواع الصناعات، وإقامة النظام وإدارته بأشكال الحكومات، وبناء الحضارة وترقيتها بأنواع الأفكار والأدوات. وهذا يستلزم وجود نوع من العمل المؤسسي من أجل تحقيق الغايات الموضوعة لها. لهذا أهبط آدم إلى الأرض لتكون محلاً لكل ذلك؛ فالجنة لا حاجة فيها لخلافة تقوم على الإعمار واختراع الأنظمة وغيرها من مستلزمات الخلافة.

ويلاحظ أن آيات سورة (البقرة) المتعلقة بالخلافة ركزت على العلم وابتدأت به: (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) (البقرة:31)؛ وسبب ذلك – والله أعلم – أن عمارة الأرض قوامها العلم قبل كل شيء. بينما ركزت آياتها المتعلقة بالإمامة على العمل وابتدأت به: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) (البقرة:124)، وهي الأوامر والاختبارات، فلما اجتازها بنجاح استحق الإمامة. لأن الإمامة – وهي القدوة التي يؤتم بها – لا تكون إلا لمن عمل بعلمه. وأما من خالف عمله علمه فلا يكون إماماً؛ لهذا قال سبحانه: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124)، وقال: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).

لكن لا تعتبر الخلافة شرعية ولا تكتمل إلا بالسير على هدى منهج رباني؛ لذلك قال سبحانه في سياق القصة: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:38). وما لم تكن كذلك فهي خلافة باطلة منقطعة: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:39).

وهذا هو الذي استدعى أن يكون الشروع بعد هذه الآية مباشرة في بيان وجوه فساد الخلافة الفاسدة ممثلة ببني إسرائيل، مبتدئة بندائهم: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (البقرة:40). وممثلة بكل السائرين على خطى إبليس. ليصدق عليها وعليهم ظن الملئكة يوم قالوا: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30). فقد تكون الخلافة فاسدة حين يتولى أمرها الفاسدون.

والخلافة الراشدة إذا تجردت من القدرة على إعمار الأرض وتولي حكمها كانت (إمامة) لا خلافة، أي كانت قدوة في الخير يؤتسى بها وإن لم يكتب لصاحبها التمكين في الأرض ليكون خليفة. بمعنى أن الإمامة يمكن أن تنفصل عن الخلافة حين لا يحصل لصاحبها التمكين في الأرض كإبراهيم u؛ فهي إمامة لا خلافة. والرجل يكون قدوة في الخير ذا شأن كبير بين الناس، فإن لم يمَكّن له في الأرض كان إماماً وسمي بذلك، لكن لا يكون خليفة ولا يسمى بذلك حتى يتمكن من حكم الناس وبسط سلطانه عليهم مهما كان حجم ذلك السلطان. فإذا اجتمعت الإمامة الصالحة مع التمكين في الأرض كانت خلافة راشدة.

والقدوة إنما يكون للناس لا للأرض فقيدت الإمامة بالناس خصوصاً المتقين؛ لأنهم هم المنتفعون بها دون سواهم وإن كان الآخرون مطالبين باستحقاقاتها. وقيدت الخلافة بالأرض لا بالناس لأنها إعمار قوامه ومادته الأولى هي الأرض. وهذا سر صرف الإمامة عن الظالمين إذ لا يصلحون للاقتداء، بينما الخلافة في الأرض تكون للعادل والظالم، وعلى الصالح والطالح كما قال سيدنا علي t: “لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة. قيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة ؟ فقال: يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء”.

فكان وصف إبراهيم u بـ(الإمام) دون (الخليفة) لهذا السبب، والله أعلم. على العكس من آدم وداود عليهما السلام؛ فقد كان آدم خليفة بلا منازع في الأرض مع أنه حكم مجموعة قليلة من البيوت هم أبناؤه ومن تناسل منهم من ذريته. وفي هذا إشارة إلى أن كل من ساس بشرع الله مجموعة من الناس قلوا أم كثروا وخضعوا له كان خليفة راشداً، وله من الخلافة بحسب سلطانه، مثل شيخ عشيرة، أو أمير لمصر من الأمصار أو بادية من البوادي. وإذا كانت هذه الإشارة ذات دلالة صائبة في الاتجاه الذي ذكرته تبين لنا – كما حققته في كتابي (الملك الراشد خلافة على منهاج النبوة) – أن الخلافة والخليفة وردتا في نصوص الوحي وصفاً يقصد به المعنى اللغوي، لا اسماً يقصد به المعنى الاصطلاحي لقباً على نظام الحكم والذي يحكم به، وهو المعنى الذي تعورف عليه بفعل حركة التاريخ؛ ولهذا لم يطلق على دولة النبي e اسم الخلافة ولا دولة الصديق في حينه، ولم يصطلح على تسمية الفاروق بخليفة المسلمين إنما سمي بـ(أمير المؤمنين) كما سمي الصديق بـ(خليفة رسول الله)، فلما استخلف عمر نودي بـ(يا خليفة خليفة رسول الله) فقال: هذا أمر يطول، بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم فأنا أمير المؤمنين. وفي هذا دلالة على أن لقب (خليفة المسلمين) لم يستقر كمصطلح رسمي إلى ذلك العهد. وهذا معناه أن الإسلام لم يرد فيه تنصيص شرعي على لقب الحاكم المراد، وإنما كان تركيز النصوص الشرعية على الحكم المراد لا على لقب الحاكم به. أما ثبوت اسم الخليفة والخلافة فكان بفعل حركة التاريخ لا تنصيص الوحي.

وهذه نتيجة غاية في الأهمية، تشكل انعطافة مهمة في أدب الحكم الرباني أو الإسلامي الموعود. وقد اتفقت الأجيال على مدى ثلاثة عشر قرناً على تسمية الدولة الإسلامية في مختلف أطوارها: علوية وأموية وعباسية ومملوكية وعثمانية بـ(الخلافة الإسلامية) رغم أنها كانت طوال هذه العصور ملكاً متوارثاً، على عكس ما يتصوره بعض المتأخرين الذين يفرقون بين الخلافة والملك اعتماداً على شبهات وردت في بعض الروايات.

وبهذا نفهم أن لقب الخليفة مصطلح متأخر عن الوحي المتقدم. ولا مشاحة في الاصطلاح لكن لا يصح شرعاً أن نفهم ألفاظ الشرع المتقدم طبقاً للعرف الذي ثبت بفعل المصطلح والعرف المتأخر.

وقد يكون المُلك عظيماً كملك داود u. وقد كانت بين آدم وداود محبة خاصة منذ أن رآه في عالم الذر، فدعا له وطلب من ربه أن يزيد في عمره من عمره هو؛ وربما لهذا تحققت فيه خلافة أبيه – وهي الملك – بأجلى صورها! فعن أبي هريرة t أن النبي e قال: (‏لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهَ، فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ تَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَعَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَرَأَى فِي وَجْهِ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، فَرَأَى رَجُلا مِنْهُمْ لَهُ وَبِيصٌ أَعْجَبَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا رَبِّ؟ قَالَ: هَذَا مِنْ وَلَدِكَ اسْمُهُ دَاوُدُ، قَالَ: كَمْ عُمُرُهُ يَا رَبِّ؟ قَالَ: سِتُّونَ سَنَةً، قَالَ: زِدْهُ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً) الحديث([2]).

_________________________________________________________________________________

[1]– وردت كلمة (الإمام) إضافة إلى ذلك أربع مرات بمعنى الكتاب (هود:17، الإسراء:71، يس:12، الأحقاف:12)، ومرة واحدة بمعنى الطريق (الحجر:79).

[2] – رواه أبو داود والترمذي وقال: ‏هذا حديث حسن صحيح. وذكره الألباني في (صحيح الجامع).

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى