مقالات

( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) (1)

د. طه حامد الدليمي

لرمضان هذا العام 1435 نكهة تختلف عنها في السنين الماضية! لقد أقبل تتقدمه تشكيلة رائعة من أكاليل النصر، وعلى شفتيه ابتسامة بشر تعد بالكثير الجميل. فحيهلا به، ومبارك على أهل السنة في العراق قدومه، وعلى بقية المسلمين دعاء وسلام.

ورمضان شهر القرآن وشهر الهدى والإيمان، فأود أن أقف في هذا الشهر أربع وقفات نتعلم فيها وإياكم كيف نؤدي – على قدر طاقتنا وعلمنا – عبادة من أعظم العبادات التي تتعلق بالقرآن، ألا وهي عبادة التدبر؛ فعلاقتنا بهذا الكتاب العظيم في أساسها علاقة تدبر، أي تفكر وتملٍّ، نغوص من خلالها في أعماق البعد العمودي لكلماته التامات، قبل أن تكون علاقة قراءة نقطع فيها المساحة السطحية لصفحاته المباركات؛ فبذلك وحده يتم تفعيل عناصر الإيمان وتحريكها في خبايا النفس ومديات الآفاق. ونحمي مؤسساتنا وبيوتنا من عوامل الهدم التي تغزوها من داخلها. وهكذا يكون الإيمان، كما هو مادة البناء، غِراءً لتماسك لبنات البناء، ودواء يقيه ويقيها من عوامل النخر وأسباب الفناء.

ثم ليس الإيمان طاقة هائمة في فضاء ممتد بلا حدود، وإنما قوة فاعلة في بناء محدد مقصود، يشكل الأفراد المؤمنون لبناته الصالحة، ولكن مجتمعين في مؤسسة منتظمة، بصرف النظر عن حجم المؤسسة ونوعها، لا متفرقين بشكلهم الفردي فقط. والقرآن الكريم لدينا هو أساس الإيمان، ثم تأتي السنة شارحة مفصلة، في المرحلتين: مرحلة الفهم، ومرحلة تنزيل الفهم على موضعه من الأنفس والآفاق.

يقول تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (الفاتحة:7،6). فسبيل الهدى يكتنفه طريقان مضللان: طريق المغضوب عليهم، وهم الذين يعلمون الحق ويخالفون، وطريق الضالين الذين لا يعلمون فلا يهتدون.

وتأتي سورة (البقرة) تفصل ما أجملته وأصلته سورة (الفاتحة)، فتحكي لنا في أول مشهد قصصي سيرة أول نموذج للمهتدين وهو أبونا آدم u، في مقابل أول نموذج للمغضوب عليهم وهو إبليس اللعين. ثم تستطرد في بيانٍ مُفصلٍ عن ورثة آدم وهم أمة الإسلام، في مقابل ورثة إبليس وهم أمة اليهود. بينما تقص علينا سورة (آل عمران) سيرة الضالين وهم النصارى. وهذا يشير إلى أن الصنف الأول أخطر؛ فالاهتمام بمعرفة خصاله أولى. والسبب واضح، وهو أن الضلال مرض بسيط يزول بالعلم، بينما الغواية مرض مركب لا ينتفع صاحبه بالتعليم فحسب.

 

سورة ( البقرة ) سورة الخلافة وإقامة الدولة

لماذا وضعت سورة (البقرة) في أول القرآن الكريم – بعد سورة (الفاتحة) – مع أنها آخره نزولاً؟ تساؤل يخطر في البال كثيراً، ويرد على الألسن أيضاً، في حاجة إلى جواب.

عندما تنظر إلى هذه السورة الكريمة تجدها تضع منهاجاً متكاملاً لإقامة الخلافة في الأرض وإعمارها على النهج القويم، وتأسيس دولة قوية تمتلك جميع عناصر النصر والتمكين. وقد ابتدأت بالـ(هدى) المضاف إلى المتقين استجابة لدعاء (اهدنا) في سورة (الفاتحة)، واختتمت بـ(النصر) على القوم الكافرين. وبين البدء والختام كان المنهج الرباني الموضوع لإخراج تلك الدولة من عالم التبيين إلى عالم التكوين.

علينا أن نعلم إذن أن الإسلام إنما أنزل وحياً من السماء لإقامة دولة على الأرض، وأن أول واجبات قارئ القرآن أن يسعى لإقامة هذه الدولة، وأن يفهم أن هذا الدين ليس دعوة مجردة أو عبادة منعزلة، ولا أهله مجموعة من الدراويش والعباد يتحكم فيهم الأشرار، ويصرف أمورهم الأغيار.

 

قصة أبينا آدم u

اتبع القرآن الكريم في التعليم والتربية أساليب متعددة، منها حكاية القصص. وكانت أول قصة وردت فيه هي (قصة أبينا آدم u). وهي قصة كلما تمليتها اكتشفت فيها جديداً. ومن آخر ما اكتشفته فيها هذه المعاني التي تواردت على خاطري بسبب تحديات عرضت لي أثناء العمل، دفعتني للتفكر واستنباط منهجية راقية للتأسيس والبناء، وحماية هذا البناء من أسباب الهدم الآتية من داخله. وإليكم التفصيل:

 

أسس الخلافة في قصة آدم u

وإذ أراد الله تعالى لآدم أن يكون خليفة في الأرض، جاءت قصته لتضع لنا أسس الخلافة والخلافة الراشدة. وهي:

  1. العلم: (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) (البقرة:31). فبالعلم تعرف أسرار الأرض وطرق إعمارها، ونفوس الناس وحاجاتهم وسبل سياستهم وقيادتهم. وبالعلم فضل الله تعالى آدم على الملئكة فسجدوا له. فالعابد الجاهل لا يحسن القيادة ولا يستحق الريادة. والعلم وتوابعه من الفكر المبدع أول صفات القائد وميزته التي بها يتقدم على أتباعه، وبها لا بغيرها يكون مؤهلاً لاستلام زمام الحكم.

شخص آخر فقط – إضافة إلى آدم – نصص القرآن على جعله (خليفة) هو نبي الله داود u وذلك بقوله: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) (ص:26). وقد لفت الانتباه في سياق قصته قوله تعالى عنه: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) (الأنبياء:80). وفي هذا إشارة إلى نوع العلم الذي تحتاجه الخلافة في الأرض. وهو العلم بالحرب وما تتطلبه من صناعات.

  1. الشورى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30). لم يكن الله تعالى في حاجة لاستشارة أحد: الملئكة فمن دونهم ليفعل ما يريد؛ فهو (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الملئكة:23). وهو كما قال: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (الرعد:41). ومع ذلك لما أراد إيجاد مخلوق جديد يدخل عالم الملئكة أخبرهم بذلك: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً). وسمح للملئكة أن تستفهم وتبدي رأيها بحرية تامة: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ). وناقشهم سبحانه ليقنعهم دون إكراه، واستدل لإقناعهم بالدليل بنوعيه: النظري: (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، والعملي: (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة:31-33). ثم بعد أن حصلت القناعة جاء الأمر بالطاعة: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا) (البقرة:34). فالآيات تعلمنا الشورى بأجلى وأرقى صورها!
  2. الطاعة: وذلك في قوله تعالى للملئكة: (اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا) (البقرة:34). وتتجلى الطاعة في خلافة الأرض فعلاً تؤديه الرعية تجاه الخليفة أو الحاكم. وهي الانعكاس الطبيعي للشورى. فالخليفة يستشير الرعية؛ هذا واجبه وحقهم. واالرعية تطيع الخليفة؛ وهذا حقه وواجبهم. ولا يستقيم الحكم ولا الدولة دون استشارة وطاعة.
  3. العدل: وهو تحصيل حاصل، وناتج مركب من الشورى والطاعة. فما التزم حاكم بالشورى إلا كان عادلاً، ولا يستقيم العدل إلا بالتزام الطاعة من قبل الرعية.
  4. المنهج الرباني: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:38). وأرى أن تأخير (الهدى) والتمييز بينه وبين (العلم) مع أنهما من جنس واحد كان لمقصود عظيم ودقيق في الوقت نفسه. فخلافة الأرض بالعمران يمكن أن تقوم على هذه الأركان الأربعة: (العلم والشورى والطاعة والعدل)، وإن تجردت عن الشرع أو المنهج الرباني. لذلك قيل: “إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة”. واستدل بعض أهل العلم على ذلك بقوله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود:117)([1]). وبهذا تنقسم الخلافة إلى ثلاثة أنواع: خلافة راشدة، وخلافة عادلة، وخلافة فاسدة.

30/6/2014

2/رمضان/1435

_________________________________________________________________________________

[1]– أي ما صح ولا استقام أن يهلك الله سبحانه أهل القرى بظلم يتلبسون به وهو الشرك، والحال أن أهلها مصلحون فيما بينهم في تعاطي الحقوق لا يظلمون الناس شيئاً. والمعنى: أنه لا يهلكهم بمجرد الشرك وحده حتى ينضم إليه الفساد في الأرض، كما أهلك قوم شعيب بنقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم، وأهلك قوم لوط بسبب ارتكابهم للفاحشة الشنعاء. (الشوكاني/فتح القدير، وأشار إليه الألباني مستشهداً في تعليقه على عبارة: “إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة…).

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى