مقالات

الفكر الوطني ذلك الحمار العراقي الأصيل

د. طه حامد الدليمي

يتمتع الفكر الوطني في العراق بـ(حمورية عالية) لا تدانيها تلك التي تتمتع بها أرفع الحمير أصالة! وقد شهد على هذه (الحمورية) رواده الأوائل. فالملك فيصل الأول مؤسس الدولة (الوطنية) العراقية الحديثة، هو لا غيره، قال في مذكراته: “أقول، وقلبي ملآن أسىً: إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعدُ، بل توجد تكتلات بشرية خيالية خالية من أي فكرة وطنية. متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية لا تجمع بينهم جامعة. سماعون للسوء ميالون للفوضى مستعدون دائماً للانتقاض على أي حكومة كانت. فنحن نريد والحال هذه ان نشكل من هذه الكتل شعباً نهذبه وندربه ونعلمه. ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف يجب أن يعلم أيضاً عظم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا الشكل”.

ولقد فشل الملك فيصل وجميع قادة الفكر الوطني في تكوين ذلك (الشعب)؛ لسبب بسيط هو أنهم اهتموا بالتعامل مع العرض فحسب وأهملوا معالجة المرض كلياً. فتلك “التقاليد والأباطيل الدينية ووو والانتقاض على أي حكومة” لم تكن مجرد ثقافة سطحية أو فلكلور شعبي يمكن ترويض الناس على التخلص منه مع الزمن، إنما كان ظاهرة متأصلة الجذور في نقيع لا ينضب ذي أربع شعب: (العقيدة والعقدة والمرجع وإيران). لقد كانوا يحلمون، ويمارسون عملية إسقاط أحلامهم على الواقع حتى صدقوها وعاشوها واقعاً لا وجود له إلا في خيالهم. ومن عاش الحلم واقعاً تحول الواقع الذي كان مرفوضاً بعد حين إلى حلم يتمناه ولا يلقاه! فلم تزد الأيام نسيج هذا الشعب المهلهل من الأصل إلا تهرؤاً وتمزقاً حتى كان يوم 9/4/2003 ليكون تاريخاً فاصلاً للإعلان عن تمزق لا يمكن رَفْوُه، وفتق يستحيل رتقه. وها هي إحدى عشرة سنة من الإبادة الجماعية لأهل السنة، وحمار الوطنية السني ما زال يطلق نهيقه المنكر في خيمة عزائنا وهو يحمل على ظهره المزيد من القتلة الظاهرين والمدسوسين إلى تلك الخيمة بكل حرص وأصالة!

واحتل الشيعة ديار السنة بكل هدوء

كانت بغداد عشية تأسيس الدولة (الوطنية المشؤومة) سنة 1921 سنية خالصة، عدا نسبة لا تكاد تذكر من الشيعة، هي أقل من نسبة اليهود في بغداد يومذاك! ثم صاروا بعد ذلك التاريخ ينزحون إلى ديار السنة ويحتلون ربوعهم بهدوء تام ودون أدنى اعتراض من أحد. فما الذي جعل الشيعة يواصلون ذلك النزوح إلى تلك الديار بالجملة، والزحف إلى تلك الربوع على مدى ثمانية عقود دون شعور من السنة بخطورة ما يجري؟ أغير الفكر الوطني الحموري؟ الذي لم يكن يرى سوى الانجليز واليهود عدواً له. لو كان السنة ينظرون إلى الشيعة كما ينظرون إلى الانجليز واليهود هل استطاع الشيعة مواصلة احتلال واستحلال بغداد والبصرة ومدن أخرى في قلب المستطيل السني؟ فكيف تقبّل السنة وجود الشيعة بينهم وهم أخطر من الانجليز واليهود كماً ونوعاً لولا (الاستحمار الوطني)؟ ولو كان الفكر السني الطائفي هو السائد – كما كان الأمر عليه من قبل – هل كان يمكن أن تتحول بغداد اليوم إلى مسلخ للسنة الذين رضوا بالشيعة أن يشاركوهم العيش جاراً بجار وحارة بحارة؟ وهل كان بالإمكان أن تولد تجمعات شيعية في بلد والدجيل في صلاح الدين، وفي كركوك والموصل وديالى، وفي حزام بغداد من جهاته الأربع، أذاقوا السنة الويل من قبل الاحتلال الأمريكي ومن بعد؟ وتتحول بغداد والبصرة من مدن سنية بامتياز إلى مدن يعيث فيها الشيعة الفساد وينخرون جسدها بلا رحمة؟

ثم انتقل الشيعة بعد جلاء الأمريكان في مشروعهم إلى مرحلة أخطر تحت ستار الفكر الوطني والإخوانية السنية الشيعية فاحتلوا المنطقة السنية احتلالاً عسكرياً حقيقياً، وصارت جيوشهم المليونية تنتشر وتنساح بكامل حريتها على طول المستطيل السني من الحلة جنوباً إلى الموصل شمالاً، ومن الأنبار غرباً إلى ديالى شرقاً، وتغزو هذه المناطق الشاسعة التي تعدل مساحتها دول الشام الأربع، دون أن يرف للسنة جفن شعوراً بالخطر الداهم! لقد كانوا ينظرون إليهم على أنهم عراقيون وإخوة عرب؛ هكذا قالت لهم حمورية الوطنيين، التي لا تعرف من عدو خارج نطاق الأمريكان واليهود! وأتلفت اليوم فأجد القواعد العسكرية الشيعية مثل قاعدة عين الأسد وقاعدة الحبانية في الأنبار، وقاعدة سبايكر في تكريت وغيرها من القواعد والفيالق والفرق والألوية العسكرية الجاثمة في قلب المستطيل السني، تذيق أهلنا أصناف العذاب، وتعرقل زحف المجاهدين إلى قلب بغداد. وأقول: كيف تمكن هؤلاء الغزاة من ديارنا وتغلغلوا بجيوشهم الجرارة هناك بسلاسة تامة حتى أحكموا طوقها وضيقوا من خناقها دون أن يستنكر ذلك أحد: هل كان يحدث هذا لولا الثقافة الوطنية وليدة الفكر الوطني الحموري؟ ولولا هذا الفكر هل كان يحصل التفريق بين المحتل الأمريكي والمحتل الشيعي فيقاتل السنة تسع سنين ليخرجوا الأمريكان ويسلموها إلى (الإخوة) الشيعة دون إحساس بالخطر إلى حد الاسترخاء والاستلقاء على طول الظهر وعرضه؟!

أقول هذا وشاشات الفضاء تنقل ما يجري في ناحية (جرف الصخر) [شمال غربي بابل] من إبادة بالبراميل المتفجرة، وحرق المنازل والبساتين، وضباط وجنود فيلق القدس الإيراني والمليشيات والجيش والشرطة يقاتلون فيها من حارة إلى حارة ونهر إلى نهر وشجرة إلى أخرى، وقد هجرها معظم أهلها تاركين بيوتهم ومواشيهم وزروعهم. وقبل أيام اعتقل من رجالها خمسون ثم وجدوا مقتولين في العراء؛ لا لشيء إلا لأنهم سنة. هذا وقد صار قتل السجناء داخل سجونهم بشتى الطرق ومنها الإبادة الجماعية بالرمانات اليدوية، أو نقلهم من سجن إلى سجن ثم تصفيتهم في الطريق: تقليداً مفضوحاً، وحديث المنظمات الحقوقية العالمية! وما يدور في (جرف الصخر) مثال لما يدور اليوم وأمس في بقية مناطق السنة. وقبل أن أنهي سطوري هذه يفاجئني خبر عن مقتل ثلاثين امرأة وطفل من أهل السنة في زيونة ببغداد على يد المليشيات الشيعية يوم أمس!

هل تدري ماذا فعلت بنا حمورية الوطنيين !

يحق لي أن أسأل هنا سؤالاً جوهرياً: لماذا لم يفعل الشيعة مثل هذا بأهل السنة على عهد الاحتلال الانجليزي قبل مئة عام؟ وأجيبك أنا فأقول: إن لهذا أسبابه الموضوعية، ويأتي في مقدمتها سببان:

1. كانت بغداد العاصمة والبصرة الميناء آنذاك في عافية شبه تامة من الوجود الشيعي، وكذلك بقية المناطق السنية.

2. كانت المؤسسات العسكرية والمدنية في عافية من الشيعة أيضاً؛ وذلك لقلة أو ندرة الكفاءات العلمية لدى الشيعة التي تؤهلهم للتوظف في هذه المؤسسات؛ فالشيعة كانوا يحَرِّمون العمل في دوائر الدولة العثمانية (الكافرة حسب اعتقادهم): عسكريها ومدنيها، وليس لهم من معاهد علمية سوى مدارس الحوزة التي تقتصر على الدراسات الدينية. فلما تأسست الدولة الحديثة لم تجد منهم كادراً صالحاً للتوظيف.

فماذا فعل قادتها الوطنيون؟ هل تعلم ماذا فعلوا!

1. فتحوا الأبواب كلها أمام الشيعة ليستوطنوا ربوع السنة؛ ولم لا؛ أليسوا عراقيين؟ ومن كان منهم فارسياً سنوا له قوانين تنظم ذلك، أولها قانون الجنسية العراقية الصادر سنة 1924 الذي اعتبر الفرس رعايا عراقيين بصورة تلقائية ما لم يتخلوا بأنفسهم عن الجنسية العراقية بطلب منهم ضمن موعد محدد! وهكذا انخفضت نسبة الفرس في كربلاء – مثلاً – من 75٪ عند تأسيس الدولة الوطنية سنة 1921 إلى 12٪ سنة 1975. وبقي مئات الآلاف من سكنة الأهوار في الجنوب الذين غزوا العراق عشوائياً من دول أخرى كإيران والهند ثم انتقلوا إلى بغداد إبان الحكم الوطني، بقوا بلا جنسية أصلاً، فمنحتهم الحكومة الجنسية العراقية على عهد عبد الكريم قاسم أول رئيس جمهورية بعد زوال الملَكية، وكأن الدولة جمعية خيرية!

هل بعد هذا الحمق من حمق! وهذه الحُمورية من حُمورية!

2. فتحوا أبواب المعاهد العلمية والمهنية كلها أمام الشيعة، التي تؤهلهم لتسنم الوظائف المدنية والعسكرية، وبطريقة خارجة حتى عن الضوابط التي تساوي بين المواطنين؛ فكان يكفي الشيعي ورقة عادية موقعة من قارئ حسينية في بغداد اسمه – على ما أظن – ملا حيدر ليقبل في كلية الحقوق ويتخرج منها بعد أربع سنوات ليرسل مباشرة في بعثة دراسية إلى الخارج استعجالاً من الحكومة الوطنية لسد النقص الحاصل في الكفاءات العلمية لدى الشيعة حتى يتجنبوا مشاغباتهم واتهاماتهم للحكومة بأنها غير وطنية. وقد أثارت هذه التصرفات حفيظة أشد السياسيين علمانية ووطنية آنذاك مثل كامل الجادرجي وتوفيق السويدي، الذي يقول: (ومن أسباب ضعف فيصل اعتقاده بصحة بعض الأقوال: أن الجعفريين مغموطو الحقوق. واذا فرض أنه موجود فإنه لم يوفق لمعالجته بالطريق المعقول. إذ كان يريد الطفرة ليوصل العناصر الجعفرية إلى الحكم بدون اشتراط كفاءة. وقد كان عمله هذا مناقضا ًلمبادئه التي بشر بها في احترام القانون والعدل المتكافئ بين الرعية. وقد أقدم علـى تنفيذ نظريته فلم تزد من شأنه بل زادت في النقمة عليه)([1]).

ونتيجة لغفلة السنة وخبث الشيعة وعملهم ضمن مشروع مخطط له سلفاً فقد استباح الشيعة مجال الدراسات العليا حتى كاد يكون حكراً عليهم. واعترف بهذه الحقيقة الشيعي حسن العلوي عندما قال: (ظهر في إحصائية مودعة بوزارة التخطيط أواخر السبعينات أن (80%) من حملة الشهادات العليا في الفروع العلمية، كانوا من أبناء الشيعة([2]). وسمعته يقول يوم 10/9/2006 من خلال قناة “الحرة – العراق”: (المحيطون بصدام من الصحفيين كلهم شيعة. لم يكن صدام يفكر بمسألة سنة وشيعة) علماً أن العلوي كان السكرتير الصحفي الشخصي لصدام حسين، ومدير تحرير مجلة “ألف باء” الرسمية.

هل رأيتم ماذا فعل الحمار الوطني السني؟ وكيف جنى هذا الحمار على العراق عموماً وأهل السنة خصوصاً! وما خفي أعظم، وهو في حاجة إلى معهد دراسات ومؤسسة إعلامية مخصصة لهذا الشأن من أجل كشف بعض جوانب الحقيقة، وتعرية الفكر الوطني، وفضح غبائه وتخلفه، ومدى إجرامه بحق العراق وسنة العراق!

الأحد

13/7/2014

15 رمضان 1435

_________________________________________________________________________________

  1. – الشيعة والدولة القومية في العراق 1914-1990، ص360/الهامش، حسن العلوي، دار الثقافة للطباعة والنشر إيران– قم.
  2. 2- المصدر السابق، ص227 ،.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى