مقالات

الفكر الوطني الجذور .. والدوافع

د. طه حامد الدليمي

جذور الفكر الوطني

إن مثلنا نحن (السنة العرب) والكرد والشيعة في العراق كمثل رجل لديه ثلاثة أبناء، منعهم من العمل فهو ينفق عليهم. أما اثنان فتمردا وخرجا عن طوقه إلى ميدان الحياة فعلما وعملا. وأما الثالث فلم يتمكن من شيء حتى مات والده لكن بعد أن بلغ من العمر قصياً، فوجد نفسه لا يجيد شيئاً، ولا والده ترك له إرثاً؛ فصار يتخبط في حركته وفكره، وكثرت أخطاؤه حتى باتت حياته عبارة عن حقل تجارب يعج بالأخطاء!

لقد اجتمعت على سنة العراق البلوى من الجهتين: السياسة والدين.

أما السياسة فكان صدام حسين كل شيء، وقد منع الجميع من أي تجربة سياسية حتى في نطاق حزب البعث فقد كان هو (الكل بالكل)، هو المفكر وهو المنفذ. نعم كان في الحزب مفكرون مثل سعدون حمادي – كما يبدو – ولكن جرى هذا على سَنن (لكل قاعدة شذوذ). وبينما كان صدام في ميدان الفكر منظراً جيداً كان في ميدان العمل منفذاً سيئاً، كان شخصاً آخر ليس هو صدام حسين المفكر الحكيم. كانت شجاعته وتهوره يغلب حكمته في معظم المواقف! ولأن تراث السنة يجعلهم يلتفون حول الحاكم فهم بناة الدولة ورعاتها منذ أن كانوا، فقد نشأوا معتمدين على الدولة منذ تأسيسها فلم يتمردوا كما تمرد الشيعة بسبب إرثهم المؤسس على المعارضة، ولا الكرد الذين بسبب الصراع القومي الذي كان طابع العصر في القرن العشرين؛ فلم تكن للسنة العرب في العراق تجربة سياسية خاصة؛ فكان مثلهم مثل الولد الثالث.

وأما الدين فقد اجتمعت البلوى على رجاله وعلمائه بسبب فساد المنهج التخريجي لطلاب العلم! وأبرز ما في هذا المنهج أنه منهج تلقيني يوسع الحافظة ولا يعمق الفكر. وقد زاد درس المنطق في بلواه بلة فعزل طلابه عن الواقع، فهم يترددون بين مقدماته ونتائجه حتى تخشب العقل فصار ينظر إلى كل معضلة من فوق برجه العاجي يفترض لها مقدمة ليستخرج منها نتيجة دون أن يكلف نفسه النزول إلى الواقع.

ثم بعد أن طيّن الفكر الوطني عقول (رجال الدين) صار نظرهم إلى المعضلة الشيعية بعد الاحتلال الأمريكي سنة 2003 هكذا: مقدمة تفترض أن الشيعة والسنة إخوة، ونتيجة تقضي بأن هذه الكارثة على عظمتها وجبروتها ليس للشيعة يد فيها، وإنما هي من صنع الاحتلال وصنائعه من السياسيين الذين دخلوا البلد على الدبابة الأمريكية. والفحل الفحل منهم من يتجرأ فينسب ذلك إلى (دولة جارة)، فإذا حميت (فحولته) صرح باسم (إيران)؛ فقالوا قولتهم الكاذبة الخاطئة: “الصراع سياسي لا طائفي”. ومن أسوأ مخرجات هذا الفكر المتخلف ما كانت تجيب به (هيئة علماء المسلمين) على مشكلة المليشيات الشيعية؟ فكان جوابها ترجمة حرفية لذلك المنهج التخريجي وعلم المنطق البعيد عن الواقع: المليشيات تابعة للأحزاب، والأحزاب تابعة للمحتل (مقدمة). فإذا خرج المحتل تسابقت الأحزاب إلى الهرب فلحقتها المليشيات، وسترون الحدود يومذاك تضيق بهم (نتيجة)! ولما خرج المحتل وحصل العكس اضطروا إلى المكابرة وإنكار الواقع المشهود فقالوا: لا لم يخرج المحتل، والدليل وجود سفارته في بغداد!

هذا إضافة إلى أن المنهج التخريجي يعتمد على ركيزة (الإيمان) ومن جانبه العلمي فقط، ويهمل الركيزة الثانية وهي (النصرة)؛ فهو مخالف لقوله تعالى: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) (آل عمران:81). والإيمان بلا نصرة يعني ديناً بلا سياسة. ويعني – كذلك – منظومة متفقهين يغلب عليها الجبن الجمعي.

ووقع الاحتلال فتقدم الكرد والشيعة من حيث تأخر السنة إذ اجتمعت عليهم البلوى من الجهتين: السياسة والدين. وبرزت (طبقة الملالي) على الحال الذي وصفت آنفاً. فنحن مبتلون منذ أحد عشر عاماً بملالي سياسة وملالي دين. يقولون ما لا يفعلون؛ لأنهم يتوهمون أن السياسة أقوال وألاعيب. ففقد الإسلاميون منهم ثقة الناس بهم.

انظروا إلى فقدان طرفي (الملالي) لأي مشروع إنقاذ. فلا جمهور مدنياً منظماً عندهم، ولا قوة عسكرية حامية لديهم. وبعضهم يفتقر للعمل السياسي على بؤسه. بينما تجد السياسي الشيعي عنده جمهور منظم وقوة أو ميلشيا، والسياسي الكردي كذلك. أما السياسي السني فلا يملك غير اللسان. وسياسة بلا قوة مقامرة بأوراق مكشوفة. وإذا كانت المصلحة أم السياسة فالقوة أبوها.

وإذ جاء عصر الفضائيات والفيسبوك وتويتر فقد تمت الفتنة؛ لأن أحدهم يتخيل نفسه قادراً على تغيير العالم بلمسة من إصبعه، وأن العالم كله يستمع إليه بخشوع كما تفعل مجموعة المصلين في خطبة جمعة حين يستمعون إليه خاضعة رقابهم لا تنبس شفاههم بكلمة! فملأوا الفضاء بالضجيج، بينما يملأ الشيعة ديارهم بالجيوش. وانطلق الحراك فكانت المنصات ترتج بالخطباء الذين لا يتجاوز كلامهم محيط ساحة الاعتصام، وتجد الواحد منهم يصرخ موجهاً خطابه إلى (مجلس الأمن والاتحاد الأوربي وملوك ورؤساء العرب) مندداً وآمراً ومطالباً وكأن هؤلاء جالسون تحت منبره يستمعون إلى خطبته، أو يعملون موظفين لديه! ولا يدري أن كل مطلب من تلك المطالب في حاجة إلى لجنة بخطة بتمويل بجهد يواصل الليل بالنهار ويقطع السهول والبحار كي يقنع المنظمة أو الجهة المختصة، ثم لا تتحرك إلا بتمويل ومتابعة؛ فهي ليست ملك يمينه أو بعض حريمه!

ولم يكتفوا بهذا حتى صاروا يعاملون الله تعالى كما يعاملون البشر فهم يدعون الله أن يلبي لهم المطالب الجسام، التي لا تتم دون أن ترصد لها الجهود والأموال والمتفرغون والمتخصصون، وربما الجيوش أيضاً، ولا يقدمون لكل ذلك سوى الضجيج والصياح (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214)! بل تجاوزوا فتألوا على الله سبحانه فصار خطيبهم يقسم للجمهور على أن الله ناصرهم ولا بد أن ينصرهم؛ معللاً ذلك بأنهم على الحق. ولو كان النصر يتحصل بالحق المجرد وحده لانتصر النبي منذ أول يوم! حصل هذا قبيل فض الاعتصام بأسبوعين أو ثلاث؛ قلت يومها: إذا وصل الأمر بالعاجزين إلى هذا الحد فقد هزمتم ورب الكعبة!

وهكذا تحولت السياسة عند هؤلاء إلى (ظاهرة صوتية) لا أكثر!

الدوافع الخفية

من خلال تجربتي وخبرتي الطويلة بأصحاب الفكر الوطني ملاحظة ونقاشاً ومعاناة وتأملاً، أستطيع أن أقول: إن ما يظهرونه من الحرص على الوطن ووحدته، في عمومه، ليس هو الدافع الحقيقي لهذا اللهاث المتكرر وراء دعوى خاست وباتت مكشوفة للجميع، وتعاد أسطوانتها في كل مرة وليس فيها من جديد سوى الاسم أو المثال الجديد بعد زوال بريق المثال القديم.

انظر إليهم كيف يتصرفون بطفولية تثير الشفقة!

قبل حوالي شهر أعلن مقتدى عن تلبيته فتوى المرجعية الشيعية وانضمامه إلى الصف الشيعي في قتاله أهل السنة، وشكل ما أسماه بـ(سرايا السلام) لحماية المراقد ومنها مراقد سامراء، وهي الحجة التي تدخلت بها إيران وحزب الله اللبناني والمليشيات العراقية لذبح سنة سوريا، وقبلها ذبح سنة العراق في 2006 وما بعدها على يد جيش المهدي وبقية المليشيات بالحجة نفسها. واستعرضت قبل أيام مليشيا جيش المهدي في شوارع بغداد. كل هذا يغض الوطنيون الطرف عنه، ولا تنقل قناة الهيئة (الرافدين) سوى كلمات يتهجم فيها مقتدى على رئيس الوزراء نوري المالكي!

إن هناك دافعاً إنِّياً خفياً يتمثل في البحث عن قشة يتعلق بها دعاة الوطنية وأسطورة (الشيعة العرب) هرباً من الاعتراف بالخطأ. وهكذا تجدهم يسارعون هنا وهناك وراء كل نأمة أو شبهة يخيل إليهم أن فيها إشارة إلى صحة دعواهم رغم أنها سقطت للمرة المئة! وبعضهم زاد على أسطوانة مقتدى، فادعى أن (الثورة) هي ثورة “العشائر العربية الأصيلة”، وأنها ليست ثورة سنية، بل هي ثورة الشعب العراقي كله كما قالوا عن المقاومة العراقية من قبل مخادعين أنفسهم بمقتدى سنة 2004 وهم يبحثون عن قشة يمكن أن تستر فكرهم الوطني البائس. بعبارة أُخرى أن الدافع الحقيقي هو البحث عن شيء يمكن أن يعطي مصداقية ولو منتهية الصلاحية للفكر الوطني الذي يتبنونه؛ أي إن الأمر لا يعدو محاولة يائسة لإثبات الذات المتضخمة أو الهوية المتهرئة! وهذا ما يبشر بزواله لأن الله تعالى يقول: (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا) (الإسراء:22). والمفتاح بيد أصحاب (الفكر السني) أن يحركوه مشروعاً حضارياً فاعلاً على أرض الواقع الذي ينتظر قدومهم منذ قرن ويزيد.

الثلاثاء

29/7/2014

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى