مقالات

صفات المتقين بين سورتي ( البقرة وآل عمران )

د. طه حامد الدليمي

في سورة (البقرة) وصف الله تعالى (المتقين) فقال: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة:3،2). فكان أول صفاتهم (الإيمان) ثم (إقامة الصلاة)، وجاء (الإنفاق) ثالثاً.

بينما جاء وصف (المتقين) في سورة (آل عمران) هكذا: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (133-135). فكان أول صفاتهم (الإنفاق). وتتابعت الصفات الأُخرى ولم يكن من بينها الإيمان أو الصلاة، مع أنهما أعلى مرتبة!

لماذا؟

والجواب التام ما جمع بين أمرين: المنهجية (وهي الأصل) والتطبيق (وهو فرع عنه). أي لماذا وقع هذا هكذا؟ وعلى أي منهجية؟ كي يكون عاماً صالحاً لهم ولغيرهم. وسننطلق من الفرع إلى أصله.

  1. سورة (آل عمران) مئتا آية. انقسمت شطرين: الثاني، ويبدأ من الآية (120) إلى نهايتها، حديث صريح عن معركة (أُحُد). أما الأول فمقدمات لها، وحديث غير مباشر عنها.
  2. ومعركة (أحد) خسرها المسلمون بقيادة النبي e. وعندما نسأل: ما سبب خسارتها بعد النصر؟ ويأتي الجواب: إنه المال، نقترب من سر التفاوت بين الوصفين في السورتين.
  3. سورة (البقرة) سورة تأصيلية؛ فهي أقرب للمنهجية. تتحدث عن أصول بناء أمة وأسس إقامة دولة. والإسلام دين عام للبشرية جمعاء بصرف النظر عن الزمان والمكان. وهذا يستلزم ذكر الأصول حسب مراتبها المطلقة وقيمها المجردة. فالإيمان أعلى مرتبة وقيمة من الصلاة، وأول في التقديم العملي. والصلاة أعلى من الزكاة وأول كذلك. فلا صلاة بلا إيمان، ولا زكاة بلا صلاة تتقدمها.
  4. أما سورة (آل عمران) – بالمقارنة مع سورة (البقرة) – فسورة تطبيقية؛ فهي أقرب للواقعية. تتحدث عن معركة خسرها المسلمون مع أن قائدها رسول الله e! فلا بد أن يكون السبب عظيماً، ولا بد أن يأخذ مرتبة الصدارة في الذكر. فكان تقدم ذكر إنفاق المال كأول صفة من صفات المتقين، لا التسابق على حيازته الذي هو سبب الخسارة، هو المعبِّر عن الواقعية والتطبيق لعلاج حالة قائمة.

وتتابعت بقية الصفات انطلاقاً من واقع الحدث. فالقتل والخسارة التي عمت فأصابت من لا يد له فيها تدفعه إلى الغضب من المتسبين بها وعقوبتهم والوقيعة فيهم؛ فجاء وصف المتقين بـ(الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:134) تالياً مباشرة لوصفهم بـ(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) (آل عمران:34). بل ذكر الله عن نفسه سبحانه أنه قد عفا عنهم: (وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (آل عمران:155). وأمر رسوله e بالعفو عنهم والاستغفار لهم وتقريبهم ومشاورتهم: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران:159). وهذا أدعى للمؤمنين إلى كظم الغيظ والعفو، والتحريض – فوق ذلك – على الإحسان إليهم.

وبقي الذين ظلموا أنفسهم فخالفوا أوامر النبي e.. ما مصيرهم؟ وماذا يفعلون؟ قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران:135). سبحانه هو الحنان المنان؛ لم يؤيسهم بحنانه من رحمته، ولم يعيرهم بما فعلوا بمنته. بل فتح طريق الرجوع أمامهم، فكان ما قال، ثم زاد فقال: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (آل عمران:136)!

  1. وقد أكد الله سبحانه على عظمة السبب، وهو المال، ودوره في إلقاء بذور الضعف والخلاف في الصف، منبهاً ومحذراً من الأمر قبل وقوعه بسنة، وذلك في أول آية من السورة التي تحدثت عن معركة (بدر) وهي (الأنفال)، مبيناً أن المؤمنين هم الذين ينفقون قبل أن يكونوا آخذين. وجاء ترتيب صفات المؤمنين بالنسق نفسه الذي ورد عن صفات المتقين في سورة (البقرة).

وليس هذا هو التحذير الوحيد في سورة (الأنفال)، وإنما ورد فيها أن المسؤولية – بطبيعتها – تكافلية؛ فمخالفة البعض تعم فتنتها الجميع: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال:25)! وهكذا كان؛ فحين خالف بعض الرماة الأمر الجازم بعدم مبارحة مواقعهم طمعاً في الغنيمة، أصابت المسلمين الهزيمة دون استثناء، فكانت المصيبة عامة.

ومما يلطف ذكره هنا تنويهاً بالمنهجية القرآنية: تأصيلاً (في سورة البقرة) وتطبيقاً في (سورة آل عمران)، أن سورة (البقرة) قد قررت في بدايتها أن الهداية في هذا الكتاب: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2). أما سورة (آل عمران) فقد بينت كيفية تطبيق آيات الكتاب من أجل تحقيق هذه الهداية، فذكرت، في بدايتها أيضاً، أن من الآيات آيات متشابهات: من اتبعها ضل وأضل. وأن الهداية في اتباع الآيات المحكمات، و(ما تشابه منه) فمرجعه إليها: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُمُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَتأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألبَابِ) (آل عمران:7).

فآية (البقرة) قررت القاعدة وثبتتها، بينما آية (آل عمران) بينت كيفية التعامل أو صيغة الاستفادة عملياً من هذه القاعدة. فالقرآن وإن كان في العموم هو مصدر الهداية، لكن لهذا العموم تفصيلاً لا بد من مراعاته عند التطبيق أو التوظيف العملي لآياته. علماً أن هذا التفصيل هو قاعدة عظيمة من قواعد الهداية. لكنها ألصق بالتطبيق مقارنة بالقاعدة الأم.

لقد خالف الرماة القاعدة؛ فاتبعوا متشابه الحدث، وهو ما ظهر لهم من النصر، وتركوا محكم أمر النبي e بلزوم أماكنهم مهما كانت نتيجة المعركة: نصراً أو هزيمة. وهو أمر واضح صريح جازم لا يقبل التأويل؛ فكانت الخسارة.

ومن هذا الباب جاء تركيز سورة (آل عمران) على الحديث عن النصارى؛ إذ كان أصل كفرهم اتباع المتشابه في وفاة المسيح u واتباع دعاوى اليهود في ذلك: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) (النساء:157). على عكس اليهود، الذين ركزت عليهم سورة (البقرة)؛ فإن أصل كفرهم المخالفة عن علم لصريح الأوامر.

26/10/2014

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى