مقالات

الحاضنة الاجتماعية من مفاهيم الأمة في إقامة الدولة

د. طه حامد الدليمي

الإسلام دولة، لكن بمفاهيم أمة.. مفاهيم تقوم على مبادئ إنسانية وثقافة مدنية ومنطلقات حضارية أخلاقية. تؤسس لدولة على قواعد ثابتة تتجاوز المحلية إلى العالمية؛ ولولا هذه المفاهيم الراقية الراسخة ما تهيأ للإسلام أن يقيم دولة عالمية امتدت عميقاً في الزمان والمكان، وهي اليوم تتهيأ لأداء الدور نفسه، وتدوير عجلة التاريخ  بيد الإسلام العظيم مرة أُخرى (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21).

من المفاهيم الأممية للإسلام، ذات البعد الاجتماعي والسياسي مفهوم “الحاضنة الاجتماعية أو الشعبية”. وهي ببساطة المجتمع الذي تعيش وتتحرك فيه.

إن تكوين “حاضنة اجتماعية” يتطلب إقامة نوع من الروابط العامة مع المجتمع المحيط أساسها الحب والتسامح والرحمة والعدل والإنصاف. ولأن المجتمع الإسلامي يقوم على التنوع الديني والقومي والمذهبي فتكوين “الحاضنة” بطبيعة الحال لا يشترط له الاتفاق في كل شيء، وإنما يكفي فيه نوع من التوافق على الأهداف العامة للفرقاء، يعود على الجميع بالفائدة بصورة متوازنة تقتضي شيئاً من التنازل الخاص حفظاً للوجود العام ضمن حدود الإسلام. وهنا ينقسم الناس طرفين ووسطاً: طرفاً ينفلت من كل قيد شرعي أو عرفي مراعاة للحاضنة. وطرفاً يهمل رعاية الحاضنة حفاظاً للقيد الشرعي أو العرفي. ووسطاً بين هذا وهذا. فإذا كان ضمن ضوابط الشرع في تحقيق التوازن كان هو الحق الذي يؤسس لدولة على قواعد ثابتة تتجاوز المحلية إلى العالمية. ودون ذلك فباطل محض، أو باطل مغلف بحق.

 

شواهد من كتاب الله تعالى وسيرة النبي e وسياسته

يشهد لذلك القرآن الكريم في آيات كثيرة، كقوله سبحانه: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:9،8). وغيره من الآيات.

أما النبي e فكان يحرص على كسب “الحاضنة الاجتماعية” وتكوينها وإدامتها. ومن أهم وسائل كسب “الحاضنة” استمالة شيوخها ورؤسائها وقادتها، وإن كانوا جفاة ذوي أخلاق صعبة وسلوك اجتماعي خشن، أو يحملون في أنفسهم ضغينة للمسلمين ويترصدون الفرص السانحة لأذاهم. وفي موقف النبي e من عيينة بن حصن الفزاري وعبد الله بن أُبَي بن سلول شواهد راقية لذلك:

  • كان عيينة بن حصن الفزاري شيخ قبيلة فزارة. قال أبو عمر بن عبد البر في (الاستيعاب): “كان عيينة يُعدُّ في الجاهلية من الجرّارين، يقود عشرة آلاف”. وكان أحمق ذا مشاكل ومشاكسات أتعبت النبي e. ولقب لحمقه ورئاسته لقبيلته بـ(الأحمق المطاع)! لكن النبي e كان يتألفه، ويغض الطرف عنه، ومن ذلك أنه أعطاه يوم حنين مئة من الإبل. روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبي e فلما رآه قال: (بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة)، فلما جلس تطلق النبي e في وجهه وانبسط إليه. فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه؟ فقال رسول الله e: (يا عائشة متى عهدتني فحاشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره). قال ابن بطال: هو عيينة بن حصن الفزاري، وكان يقال له: الأحمق المطاع، وقد رجا النبيُّ e بإقباله عليه تألُّفَه ليُسْلِم قومُه؛ لأنّه كان رئيسهم. وكذا قال عياض والقرطبي والنووي جازمين بذلك.
  • وكان شراً منه رأس النفاق عبد الله بن أُبَي بن سلول. وما فعله من أذى في حق النبي e والمسلمين معروف مشهور. من ذلك استغلاله لخلاف وقع بين أنصاري وآخر مهاجري انتصر بعض الحاضرين من الصحابة لهذا وآخرون لهذا، وكانوا راجعين من غزوة (بني المصطلق) فقال: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) معرضاً بالنبي الكريم e! فاستأذنه عمر t في قتله، فقال له النبي e: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه). والقصة في صحيح البخاري.

وأشد ما فعله من ذلك اتهام بالنبي e في زوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. والحادثة مشهورة ومعروفة بـ(حديث الإفك) كما سماها القرآن في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور:11). تقول عائشة: (وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول) رواه مسلم. وجاء في سياق الرواية عن عائشة: (فقام رسول الله e على المنبر فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول قالت: فقال رسول الله e وهو على المنبر: “يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً. ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي”. فقام  سعد بن معاذ  الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله؛ إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: فقام سعد بن عبادة  وهو سيد الخزرج  وكان رجلاً صالحاً ولكن اجتهلته الحمية فقال لسعد بن معاذ:  كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله. فقام  أسيد بن حضير، وهو ابن عم  سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله e قائم على المنبر فلم يزل رسول الله e يخفضهم حتى سكتوا).

وفي سنن أبي داود عن عائشة قالت: (لما نزل عذري قام النبي e فذكر ذلك وتلا القرآن. فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضُربوا حدهم، وسماهم: حسان ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش). ولم يجلد ابن سلول مع أنه كبير الساعين في الإفك. وقد اختلف العلماء في وجه تركه e لجلده. فقيل: لتوفير العذاب العظيم له في الآخرة. وقيل: لعدم توفر البينة فإنه كان يرمز ولا يصرح. وكل ذلك تأويل بعيد، مجانب لرواية أمنا عائشة رضي الله عنها، وفي آية (النور) ما يشير إلى كون (الذي تولى كبره) معروفاً مشخصاً. لهذا نرجح القول الآخر مما قاله العلماء وهو ترك حده تألفاً لقومه ومداراة ابنه؛ فإنه كان من صالحي المؤمنين وإطفاء لنائرة الفتنة، فقد ظهرت مباديها من سعد بن عبادة ومن معه. والأصول كلها تشهد لذلك.

ومن أشهر ما جاء في مداراة (الحاضنة الاجتماعية) إكرامه e لأبي سفيان، وهو الذي كان يتولى كبر محاربة النبي e وقيادة الجيوش لذلك، حتى قال في حقه، والحديث في (صحيح مسلم): (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)؛ فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته!

وهذا كله يدل على أن الدولة – لاسيما في أول تأسيسها – لا تقوم على القوة فحسب، ولا الإكراه، ولا ملاحقة الناس واتهامهم تتبعاً للشبهات والعورات، وإثارة أجواء الشك والشك المتبادل، فضلاً عن المسارعة في القتل ما لم تدع إلى ذلك ضرورة ببينة واضحة معتبرة. بل على العفو والصفح وإكرام وجوه القوم وتقريبهم، وإشاعة أجواء الثقة والطمأنينة، والإيحاء بأن العهد الجديد يبشر بالخير والسلام في دين الناس ودنياهم. فإن هذا هو الذي يؤسس لدولة على قواعد ثابتة تتجاوز المحلية إلى العالمية. ودون ذلك الاستبداد والاضطهاد المؤدي إلى زوال الدولة عاجلاً أم آجلاً كما دلت السنن: كونيها وشرعيها، وجاءت بذلك الأخبار عن الأولين والآخرين.

30/1/2015

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى