مقالات

عصا الأقدار .. وأطباع العبيد

د. طه حامد الدليمي

دعاني العقيد (أبو عبد الله) لزيارته يوم الخميس 16/12/2010. والعقيد (أبو عبد الله) من عشيرة البو هزيم أحد عشائر الدليم، يسكن الخالدية. ذهبت إليه في الموعد المضروب بعد صلاة العشاء، وكان معي بعض الأصدقاء. بعد حوالي ساعة دخل رجلان أحدهما أخوه، من وجهاء العشيرة وشيوخها في حوالي الستين من عمره، خريج كلية، متواضع سمح. واسع الصدر يجيد الاستماع، ويناقش ويتقبل الفكرة حين يقتنع بها. كان الحديث قبل مجيئه عن الفدرالية، وكان مضيّفنا بخلفيته العشائرية والبعثية يرفض الفكرة. أما الشيخ فبعد قليل تكلم فكان ملخص كلامه: الشيعة هم غالبية العراق، وأعطى لهم نسبة محددة هي 62%! واحتج لذلك مدعياً أنه قرأ هذه النسبة في أحد كتب الجغرافيا كان مقرراً للدراسة. والسنة هم بدأوا الاعتداء على الشيعة واحتج لذلك بحوادث قتل على الطريق لسواق شيعة شهدها بنفسه. والشيعة العرب إخواننا، أما الشر فمن الشيعة العجم فقط. والفدرالية فتعني لديه التقسيم وهذا غير مقبول. إذن علينا التعايش مع الشيعة.

أبو عبد الله يرفض الفدرالية رفضاً تاماً ويراها خطوة للتقسيم ضمن مؤامرة أمريكية صهيونية إيرانية، على العكس من أبو همام (الرجل الثاني الذي جاء برفقة الشيخ) الذي قال: لا حل لنا إلا بالتقسيم، وهذا رأيي من أول يوم للاحتلال.

كان النقاش هادئاً وودياً طرحت فيه الأفكار بموضوعية وحيادية. قلت: الكارثة كبيرة والمشكلة معقدة فلا يمكن أن يكون الحل بسيطاً. المشكلة المعقدة تحتاج إلى حلول معقدة. وأنا أطرح أفكاراً للمناقاشة وتبادل الآراء وليس شرطاً أن أكون متبنياً لها. أرى أن نلتقي ونبسط كل الآراء للبحث دون حرج ولا إنكار، فربما خرجنا بحل مناسب. وإذا كنتم تجدون الفدرالية خطوة للتقسيم فلماذا لا نقول العكس: الفدرالية طريق لوحدة العراق؟ ولهذا ما يسنده: لا يوحد العراق إلا العرب السنة. ولا يمكن تحقيق هذا الهدف من دون وحدتهم وبروز كيان قوي لهم. والفدرالية تقوي الكيان السني. ومن يقود السنة يقود العراق. الشيعة سيختلفون فيما بينهم، ويتقاتلون، وعندها يستغيثون بنا.

تكلمت عن الأغلبية السنية. وعن العدوان الشيعي. وعن مفهوم الشيعة العرب. وعن التعايش السني الشيعي. وسأل أبو عبد الله عن فائدة الفدرالية؟ فقلت: تمنحنا فرصة ذهبية لإقامة كيان سني قوي اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً. وتقف سداً أمام البرنامج التشييعي للسنة وأوله تغيير المناهج. تحفظ لنا خيراتنا، ونتصرف بأمننا دون تدخل الشيعة وغيرهم، فنحمي مناطقنا. بل نحفظ وحدة البلد. إننا اليوم إذ نرفض الفدرالية سيأتي يوم نكون في ذيل قافلة الجماهير التي نتيجة الظلم الشيعي ربما يقومون بثورة لا ترضى بأقل من التقسيم، وعندها ربما تحدث فوضى لا نقدر على ضبطها، ولن يكون لنا كلمة على ذلك الجمهور الذي سيرفضنا لأننا لم نضع له حلاً.

وقلت: سترون الفدرالية إذا طرحت من قبل السنة فأول من يرفضها الشيعة وإيران. قال الشيخ: لماذا؟ قلت: هم اليوم يشعرون بالقوة على غير ما كانوا عليه بداية الاحتلال فكتبوا الدستور بنفسية الخائف وعقلية الأقلية المضطهدة التي تطلب الحماية لنفسها، فكانت الفدرالية حلاً لهم. اختلفت الحال اليوم، وانعكس الأمر: نحن الجانب الأضعف والخائف، أما هم فيشعرون بالقوة فيريدون تشييع العراق وبلعه كله. والفدرالية أيضاً بالنسبة لإيران تثير عليها الأقليات.

قال أحد أصدقائي: خوفي أنا من أن المالكي في المرحلة القادمة سيغير الدستور ويحذف فقرة الفدرالية. قلت: وعندها ستحل بنا كارثة. ونعض أصابع الندم من حيث لا نفع.

وقال الشيخ:

– وحدة العراق خط أحمر، والفدرالية تقسم العراق.

قلت له:

– لا أريد أن أستبق النتائج فأكون مع أو ضد، ولكن دعنا نتناقش ثم نرى، والموضوع مهم والوضع خطير يحتاج منا إلى نقاش وتبادل الرأي، عسى أن نقع على حل أو ما يدانيه.

فقال بهدوء ووقار وأدب جم:

  • تفضل.

فقلت له:

– لو افترضنا الصورة التالية على الواقع: مجموعة قبائل (ثلاث أو أربع) يتهددها عدو من خارجها يريد ابتلاعها والسيطرة عليها. حصل أمر سبب اختلالاً في توازن القوى: واحدة من هذه القبائل (ولنقل: إنها قبيلتك) حدث لها ما فرق أبناءها وجعلها شراذم: كل شرذمة عليها شخص يدعي المشيخة، تتناحر فيما بينها. تأمرهم فلا يطيعون، وتنصح لهم فلا يستجيبون. وهكذا خرجت قبيلتك من معادلة القوى. إن هذا الخروج أضعف من قوة بقية القبائل فتمكن العدو الخارجي من التغلغل بينها والتدخل والتحكم في شؤونها ومصادرة قرارها، وصار يغري شيوخها ووجهاءها و….. سفهاءها بالمال وغيره. بقيت أنت ومعك مجموعة من قبيلتك لا تزيد على خمسين أو ستين، تحاول الإصلاح، وتنصح لأولئك الشيوخ والوجهاء وغيرهم وتنادي: يا إخوتاه! وحدوا جهودكم فالعدو يتمكن منا يوماً بعد يوم وسيلتهمنا جميعاً في نهاية المطاف. ولكن.. لم تجد أحداً يسمع لك أو يطيعك؛ بسبب الضعف الذي اجتاح كيانك، بعد أيام العز التي كنت فيها مرهوب الجانب مسموع الكلمة.

ليس هذا فحسب، وإنما صارت القبائل المجاورة – ومعها العدو الخارجي – تطمع في قبيلتك نتيجة تفرقها وضعفها وانشغالها بنفسها، فتغري أتباعك وترهب الآخرين منهم: تعطي هذا وتقتل ذاك وتطارد الآخر، وتنهب وتسلب، وتجاوز الجميع فوصل العدوان إلى الأعراض، وقطعت الأرزاق. وأنت ما زلت تقدم لهم المواعظ والنصائح تلو النصائح، وتقول لهم: دعونا نوحد جهودنا. أسألك بالله:

  • أليس هذا هو وصف حال العراق اليوم؟

–   بلى

–   هل تأمل من أحد أن يستجيب لك وأنت على هذه الحال من الضعف؟

–   كلا

–   فما هي الخطوة الأولى الصحيحة قبل التفكير بتوحيد القبائل؟ أليست هي الالتفات إلى الصف الداخلي لقبيلتك من أجل توحيدها وتجميع قواها لتعود موحدة تحت رايتك كما كانت من قبل، وعندذاك ستكون مسموع الكلمة يحسب لك الآخرون ألف حساب؟

–   بلى

–   إذن النداء بالوحدة مع القبائل لا جدوى منه دون العمل على توحيد قبيلتك؟

–   أكيد

–   إذن علينا نحن السنة العرب أن تكون خطوتنا الأولى هي في تقوية مناطقنا ورص صفوفها وإعادة بنائها: هل توافقني على هذا؟

–   بلا شك

–   هل ترى في هذه الدعوة تفرقة أو عائقاً أمام توحيد القبائل للوقوف بوجه العدو المشترك؟

–   على العكس، بل هي حركة في الاتجاه الصحيح

–   هل تتصور إمكانية توحيد العراق والسنة العرب ضعفاء متشرذمون، تتحكم فيهم الحكومة المركزية الطائفية؟

–   لا أرى ذلك أبداً

–   ألا ترى أنه يجب علينا أولاً وقبل كل شيء أن نسعى إلى تهيئة جو وفرض وضع يخفف من تحكم السلطة المركزية وتدخلها في مناطقنا، ويخرج فرقها العسكرية التي أهانت كرامتنا ودنست شرفنا وقتلت أبناءنا وشردت كرامنا؟ ويعطينا فرصة لأن نسحب نفَساً ونلتفت لبناء مدننا وإعمارها وتقوية أنفسنا؟

–   هذا في أول سلم الأولويات

–   هل ترى هذا حجرة عثرة أمام وحدة العراق؟

–   بل هو خطوة طويلة في طريق الحفاظ على وحدته وبنائه وإرجاع هيبته وعزته وغابر مجده

–   طيب.. فإذا كان في الدستور العراقي ما يحقق لك هذه الفرصة ويهيئ لك هذا الجو، ويمنع عنك تسلط الحكومة الطائفية؟ ما المشكلة في ذلك؟

– بل هذا هو (عز الطلب)!

–   إذا كان هذا موجوداً في الدستور العراقي فلماذا لا نطالب به؟

–   أنا أسأل لماذا؟

  • وجوابي على سؤالك: صدقني المشكلة لفظية لا أكثر ولا أقل؛ إن هذا يسمى بالمصطلح العلمي (فدرالية)، والثقافة الجمعية للسنة العرب بتركيبتهم النفسية (الأبوية) تجعلهم يتطيرون من هذا اللفظ، ويشطبون على جميع ما فيه من حسنات، مركزين على الجانب المظلم – أو ما يتصورونه مظلماً – منه، ثم يوسعون من هذا الجانب ويضيفون إليه، ويزيدون هنا وينقصون هناك فلا تتبقى منه سوى الصورة المشوهة. هذا مع ضعف في فقه (الموازنات) لنرى في المحصلة النهائية: هل خيره يغلب على شره؟ أم العكس؟ وفقه الموازنات هو فقه شرعي وسياسي وفطري، بل هو قانون اجتماعي لا يمكن أن يقوم مجتمع ويستقر ويستمر من دونه. وجماعتنا ضربوا به عرض الحائط في تعاملهم مع (الفدرالية)، فهم يحصدون نتائج وقوفهم في وجه السنن الكونية التي وضعها الله تعالى لعباده. وسنن الله غلابة. فكيف إذا كانت السنة الكونية هي قاعدة شرعية أصولية؟ هنا نكون جمعنا خطيئة إلى خطأ، فالعقوبة مضاعفة، ونحن في فترة عقوبة لن نخرج منها ما لم نسرع في مراجعة أنفسنا وإعادة حساباتنا.

وهنا قال أخوه أبو عبد الله:

  • فلنسمها لا مركزية إدارية

قلت:

  • فليكن؛ هذا شيء جيد

لكن ومنذ أربع سنين لم يتجاوز الكلام حدود النقاش إلى ميدان الواقع. والتقيت العقيد عدة مرات في هذه المدة فإذا هو في كل مرة يعود إلى وتده الأول لا يريد مفارقته؛ فللأفكار عبيدها كما الأشخاص. وقد أورثهم التعايش الدائم معها طبع العبيد، الذي لا علاج له سوى العصا. وانطلق (الحراك) فلم يتجاوز منصات الخطابة، بينما كانت ماكنة الذبح الشيعية تجزر رؤوس العبيد وتسحق أجسادهم. وعلى مرمى البصر كان قطار القدر يطلق صفيره الأخير وسط ضجيج المنصات العاصف. حتى إذا وصلت إليها تلك الماكنة فأتت عليها، وخفتت الأصوات إلا من همهمة جريح، وأنة عجوز، واستغاثة قعيد.. تلفت القوم فإذا القطار قد غادر منذ زمن. وإذا قانون الأقدار لا يرحم الأغرار. وعصاها لا ترحم أطباع العبيد.

 

6/5/2015

 

 

 

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى