مقالات

هوس الاندماج

د. طه حامد الدليمي

العرب مهووسون بكلمة (الوحدة والجماعة). ولا ضير في أصل المبدأ فالإسلام دين الوحدة والجماعة. فأين المشكلة؟

كانت الوحدة في البدء معروفة لدى العربي المسلم بمفهومها ولوازمها، لكن كما هي طبيعة الأمور في ظهور آثار طول الأمد على الألفاظ وتغيرها بالاستعمال ونسيان أصولها، مثل مفهوم كلمة (الإله) واختلاطه بمفهوم (الرب)، كذلك حصل تغير في المفهوم الثقافي لـ(الوحدة) بعد تغير المفهوم العلمي لها بالاستعمال. وهكذا بقي التمسك الشرعي باللفظ مع التغير اللامحسوس في المفهوم. فانقلب التعلق الهوسي بالمبدأ إلى ضرر كبير تعاني منه المجتمعات العربية. كطفل يمشي في سوق معلقةً يده بعباءة أمه، وفي لحظة، وبينما عينه تزيغ نحو فقاقيع السوق ارتخت يده دون شعور فأفلت العباءة ثم أرجعها بعد قليل لكن إلى عباءة غير عباءة أمه واستمر في المسير. وأضرب لكم مثالين:

 

وهم رفع الخلاف في أصل الدين أساساً للوحدة

الثفافة العربية السائدة تتطير من الخلاف، وتدعي التوحد في أمور يكذبها الواقع: العلمي أو العملي؛ وحين تواجه بالحقائق تلجأ إلى الادعاء. الوطنيون يقولون: لا فرق بين الشيعة والسنة؛ لأن ثقافتهم ترى ضرورة أن يتوحد الدين ليتوحد الوطن. ولأن الوطن عندهم فوق الدين، فعلى الدين أن يتوحد كرامة لعيون الوطن. وإلا رفعوه من المعادلة مع النصارى والصابئة ومن يستحيل عليهم حشره في بلعوم الدين. وكان الأولى بهم أن يدركوا أن الوحدة لا تستلزم ضرورةً وحدة الدين؛ فيحفظوا لدينهم مكانه ومكانته.

من الناحية الأخرى أسقطوا هذه الرؤية على الآخر فنظروا إلى كل خلاف في الطرف الشيعي على أنه تفتت يناقض التوحد. فما إن يصرح أحد الشيعة (الوطنيين في نظرهم) بنقد إيران أو يأتي بما يخالفها ويغضبها حتى يقولوا: انظروا إلى هذا الوطني! بهؤلاء نحقق (الوحدة الوطنية). وما علموا أن إيران أذكى منهم وأن الشيعة أعرف بما يناقض الوحدة ويمحوها مما يناكفها ولا يناقضها. وأن حزب الدعوة يختلف مع إيران في الأساس الذي قامت عليه دولتها وهو (ولاية الفقيه)، ومع ذلك فهو أكثر الجهات تصالحاً معها وخدمة لها!

 

وهم الاندماج شرطاً للوحدة والجماعة

الثقافة السائدة لا تتصور لغير الاندماج حقيقة ومظهراً للوحدة. فهي ترى التحالف والتنسيق والفدرالية والكونفدرالية والاتحادات القائمة على توحيد احتياجات معينة بين بعض الدول مثل العملة والسوق والدفاع.. كلها ليست مكونات مهمة وأساسية وجوهرية للوحدة المنشودة، وقد تبقى هي الوحدة الشرعية ضمن الظرف عهوداً طويلة. وإن حصلت فتقبلها على مضض، منتظرة تجاوزها إلى الاندماج الكلي دون النظر إلى مدى صلاحية الظرف لذلك. ولقد بلغ هوس الثقافة بالوحدة الاندماجية أن عامة الجماعات والفصائل والأحزاب تفرض على أتباعها عقد البيعة لكي يصح انتماؤهم إليها. وهو نوع من التماهيات الإسقاطية اللاواعية مع الحاكم. وأما الحاضر في الوعي فهو الحرص على تحقيق الاندماج الذي هو المظهر الوحيد للجماعة أو الوحدة عندهم. ولو نظروا لوجدوا أن الوحدة الاندماجية لا وجود لها إلا في خيالهم، أما الواقع فلا يزيده خط الزمن إلا تشرذماً، والبيعة أحد أسباب التشرذم لا الاندماج!

علينا أن نتواضع في أحلامنا، وندرك أن أمة بمليار ونصف إنسان، متعددة الشعوب والثقافات والديانات والاقتصاد والسياسات، لا يمكن أن تتوحد اندماجياً ولا مطلوب منها ذلك حتى لو خضعت لنظام سياسي واحد. وأن دولة الإسلام ما إن توسعت فوق طاقتها حتى ابتدأت بالتجزؤ رغم قلة عدد السكان نسبة إلى اليوم؛ فعاشت في كيانات إسلامية. وأبسط مثال لذلك دولة العباسيين في المشرق ودولة الأدارسة في المغرب، ودولة الأمويين في الأندلس، وقد تعايشت هذه الدول متجاورة في زمن واحد.

18/11/2015

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى