مقالات

عروبة العلماء (1)

د. طه حامد الدليمي

من حين لآخر تطل علينا الشعوبية بأشكال وألوان شتى. لعل أخطرها ذلك الوجه المتجمل بطلاء “حيادية البحث طلباً للحقيقة المجردة”. ومن مفرداته دعوى أن مشاهير علماء الأمة كانوا فرساً، مع الإيحاء بأن حضارة العرب والإسلام لم تكن وليدة نتاج فكر عربي. وحتى تسلم هذه الدعوى لا بد من وجود جهد يقوم على التلبيس والتدليس، وعقل سطحي تستغرقه ظواهر الأمور عاجز عن الغوص في حقائقها. مثلاً يؤتى له بعلماء ذوي ألقاب أعجمية – كالنيسابوري والسجستاني – فيصدق أنهم فرس وليسوا بعرب؛ والدليل هذا اللقب. أو يفصلون له بين العالِم والحضارة التي رعته فلا يرى فضلاً للحضارة العربية في صناعة العالِم. في أمريكا علماء عراقيون وعرب ويابانيون يساهمون في تطويرها، هل يمكن أن ينسب هؤلاء في نتاجهم لبلدانهم، فيقال مثلاً: العراق هو الذي أنتج كذا واخترع كذا، بمعزل تام عن دور أمريكا في إخراجهم ورعايتهم؟ أم الصواب أن يرجع الفضل في نتاجهم إلى أمريكا أولاً، ثم لا بأس أن يشار إلى أصل العالم ومنشإه؟

مجمل القول: الشعوبيون والمغفلون:

  1. يتجاهلون دور العلماء العرب.
  2. يدلسون في نسبة علماء عرب تعلقاً بأسمائهم، مثل أبي حنيفة، أو ألقابهم، مثل الإمام مسلم، إلى الفرس.
  3. يُغفلون دور الحضارة العربية الإسلامية في صناعة العلماء الأعاجم. فهم حضارياً عرب، وجهدهم منتوج حضاري عربي. كما أن جهد العالم غير الأمريكي في أمريكا منتوج حضاري أمريكي.

وهذا بحث مختصر بمقال فيه شيء من الطول، يؤكد على حقائق ومعلومات جوهرية في هذا المجال تكفي لإبطال تلك الدعوى الشعوبية.. ولقد كنا في غير ما حاجة لهذا البحث لولا عقدة النقص التي تنخس الشعوبيين فلا تدعهم يرتاحون أو يريحون حتى يثيروا عجاجهم في وجوه السالكين.

عربية أئمة العلوم

لنأخذ اللغة والفقه والحديث مثالاً لعربية أئمة العلوم.

ونبدأ باللغة، ومن الإمام سيبويه. سنجد مصداقاً لما قلت آنفاً، ويتبين أن يداً وراء تبريز شخصية سيبويه العلمية على حساب إمام العربية طراً العربي الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي هو شيخ الفارسي سيبويه! لا أظن أحداً يقلل من شأن سيبويه ومنزلته بين علماء العربية، ولكن التحقيق يظهر أن غيره أولى منه بإمامة اللغة.

 

دور الإعلام

ويبدو أن الإعلام الفارسي كان له دوره في خلط الأوراق والمراتب. وكان للشخصية الفارسية بعقدها المتأصلة فيها أثرها في ذلك. بينما الإعلام العربي لم يكن ملحاحاً كالأول؛ فالعربي ينطلق من شخصية ذات طابع أبوي قيادي هادئ رزين، يأنف من دخول مباراة منافسة مع الغير لإثبات ما يشعر أنه ثابت له. وكان متطرفاً في هذا الطابع وطيباً جداً إلى درجة أنه ينظر إلى ما يجري وفعله الخطير على الجمهور دون أن يرد ويبين وينتشل هذا الجمهور من هذا التخليط والتدليس والأكاذيب التي باتت ثقافة راسخة لديه، يستثمرها الآخر إلى أبعد حد. حتى إنني لأتهم ذوي الشأن بالسذاجة. ولكم أن تقارنوا بين هذا وبين موقف سنة العراق في ترك الشيعة يدعون أنهم الأغلبية في البلد دون أن يتصدى لهم من يرد عليهم ويخرس ألسنتهم التي تشربت الكذب.

 

  1. عربية علماء اللغة العربية

من الاستغفال والغفلة المشينة، ومن الاحتيال والسذاجة المهينة أن تنسب إمامة علم العربية إلى غير عربي، وهذا الغير فارسي! ولو سلمنا جدلاً لكل العلوم أن يكون إمامها فارسياً لا يجمل بنا ولا يليق أن يكون إمام لغتنا فارسياً. أم عقر رحم العربية أن ينتج لنا وليداً عربياً تكون له إمامة اللغة؟

ليس هذا منطلقاً قومياً عنصرياً، بل هو نابع من طبيعة الأمور أولاً، ومن معطياتها الواقعية ثانياً. فالعربي أعرف بلغته من الفارسي، وهم أكثر عدداً من الفرس الذين أسلموا بأضعاف مضاعفة؛ ونبيهم عربي، وقرآنهم عربي؛ فعلى أي أساس تخرج زبدة هذا المخيض في النهاية فارسية لا عربية؟ إلا إذا قلنا بخمول العرب وتخلفهم حتى في مجال اختصاصهم. وهو المقصود من وراء هذا الاستغفال والاحتيال، وإن كان في نفسه مناقضاً لمنطق الأشياء.

أما معطيات الواقع فتثبت أن إمام اللغة بلا منازع هو العربي الخليل بن أحمد الفراهيدي واضع معجم (العين) أول معجم لغوي في تاريخ لغة العرب، والذي وضع واكتشف علوماً عدة كان هو مكتشفها ومؤسسها منها علم (العروض).

 

الخليل بن أحمد الفراهيدي

جاء في ترجمة الفراهيدي: هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، الأزدي، ولد بالبصرة، وشب على حب العلم، فتلقى عن أبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر الثقفي وغيرهما. ثم ساح في بوادي الجزيرة العربية، وشافه الأعراب في الحجاز ونجد وتهامة، إلى أن ملأ جعبته ثم آب إلى مسقط رأسه البصرة. واعتكف في داره دائباً على العلم ليله ونهاره هائماً بلذته الروحية، فنبغ في العربية نبوغاً لم يسبق إليه، وبلغ الغاية في تصحيح القياس واستخراج مسائل النحو.

قال الزبيدي: “وهو الذي بسط النحو ومد أطنابه، وسبب علله، وفتق معانيه، وأوضح الحِجاجَ فيه، حتى بلغ أقصى حدوده وانتهى إلى أبعد غاياته. ثم لم يرض أن يؤلف فيه حرفاً أو يرسم منه رسماً ترفعاً بنفسه وترفعاً بقدره؛ إذ كان قد تقدم إلى القول عليه والتأليف فيه، فكره أن يكون لمن تقدمه تالياً، وعلى نظر من سبقه محتذياً، واكتفى في ذلك بما أوحى إلى سيبويه من علمه، ولقنه من دقائق نظره، ونتائج فكره ولطائف حكمته، فحمل سيبويه ذلك عنه، وتقلده وألف فيه (الكتاب) الذي أعجز من تقدم قبله، كما امتنع على من تأخر بعده”.

وقال السيوطي: “كان أعلم الناس وأذكاهم، وأفضل الناس وأتقاهم”. وقال محمد بن سلام: “سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع”. فلا غرو أنه لولا تعهد الخليل النحو في نشأته لبعد عنه طور النضوج والكمال، فللخليل فضل النهوض به كما لأبي الأسود فضل تكوينه. نعم قد اتفقت كلمة العلماء على أن الخليل واضع فن الموسيقى العربية، وواضع علم العروض والقافية، وأول من دون معجما في اللغة بتأليفه “كتاب العين”. وله بعدئذ مأثرة الشكل العربي المستعمل الآن، وله مؤلفات أخرى في غير اللغة أيضاً.

كان رحمه الله في فاقة وزهد لا يبالي الدنيا، بينما الناس محظوظون بها من علمه وكتبه، وجه إليه سليمان بن علي عم أبي العباس السفاح والي فارس والأهواز رسولاً لتأديب ولده، فأخرج الخليل إلى الرسول خبزا يابسا وقال: ما دمت أجده فلا حاجة بي إلى سليمان، فقال الرسول: فما أبلغه عنك؟ فقال أبياتا مطلعها:

أبلغ سليمان أني عنه في سعة          وفي غنى غير أني لست ذا مال

توفي رحمه الله بالبصرة، متأثراً بصدمة في دماغه من سارية سنة 175هـ على الأصح([1]).

وفي المقال التالي سأذكر – إن شاء الله – سيبويه، الذي نسبت إليه إمامة اللغة بفعل الدعاية الفارسية، وفشله في امتحان علماء بغداد له للتحقق من مدى أهليته في اللغة. محاولين إنصافه كما يجب، غير غاضين من منزلته العالية في النحو.

 

7/12/2015

_______________________________________________________________________________________

[1]– نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة، ص64-66، الشيخ محمد الطنطاوي، تحقيق أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل، مكتبة إحياء التراث الإسلامي، الطبعة الأولى، 2005م – 1426هـ.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى