مقالات

الدولة الإسلامية .. إلى أين ؟

د. طه حامد الدليمي

في ديننا يرتبط مفهوم الدنيا بالآخرة، ما دامت قيمة الزاوية التي تنتظمهما مع المسلم تساوي صفراً. ذلك يعني أن تسديد الرامي باتجاه الهدف مضبوط تماماً.

تأمل هذه الآيات البينات:

(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الإخلاص:1) ما الصفة التالية لله الأحد؟ (اللَّهُ الصَّمَدُ) (الإخلاص:2): الذي تصمد إليه القلوب وتعتمد عليه في قضاء حوائجها. فارتبطت كلمة التوحيد بمنفعة العبيد. والمعوذتان جناحا (الإخلاص): فالله (رب الفلق): الذي يقي (من شر ما خلق). و(رب الناس وملكهم وربهم): الذي يقيهم (من شر الوسواس الخناس).

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (2:الكوثر): اقترنت الصلاة بإطعام الطعام، وأعلاه اللحم. كما اقترنت بإعطاء المال: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة:3). والصلاة هي الركن الأول بعد التوحيد. وكذلك ارتبط الصيام والحج بمنفعة الخلق. وتفصيل ذلك في القرآن المجيد متهيئ للجميع.

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) (قريش:3). من هذا الرب سبحانه؟ بأي صفةِ فعلٍ نعبده ونتقرب إليه؟ (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش:4). وقبلها كان الانتفاع بالتجارة سبباً للأمر بالعبادة: (لإيلاف… فليعبدوا)!

هذا رب العالمين يتحبب إلى عباده بأهم حاجتين: الطعام والأمن. وهذا يعني أنه إذا ارتبط وجود أي حكومة بتوفير الرزق والأمن فإن الناس تحبها وتحفها وتنصرها.

واللطيف أن تضمين هذا المفهوم العظيم كان في قصار الصور التي يحفظها كل مسلم لا طوالها فحسب! وما ذلك – طبقاً لفهمي القاصر – إلا لتكون المفاهيم الضرورية معروضة للجميع.

وتكررَ المفهوم نفسه في طوال السور: (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) (البقرة:21). من هذا الرب سبحانه؟ (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ) (البقرة:21-22).

وهذا يتطابق مع قوانين علم النفس وعلم الاجتماع. ففي الفعل الانعكاسي الشرطي، إذا اقترن أي مؤثر بشيء محبب انتقل الحب إلى المؤثر. وإذا كان العكس كان المنتقل هو العكس. أذكر أنني بقيت سنين كلما مررت بالقرب مستشفى اليرموك شعرت بوخزة في قلبي آتية منه إلي! أتدرون لماذا؟ لأن عملية ختاني تمت فيه، وكانت بلا مخدر.

فإذا ارتبط في الذاكرة النفسية: الفردية والمجتمعية أقرب محبوبين: (الطعام والأمان) بالرب، كانت العبادة هي الجواب الطبيعي لتلك المقدمة. وهذا يعني أنه إذا ارتبط وجود أي حكومة بالجوع والخوف فإن الناس تكرهها وتتمنى زوالها، وما بعد ذلك إلا الخروج عليها ومقاتلتها وإزالتها. أي أن أساس البقاء والبناء وهو الحاضنة الداخلية (الاجتماعية) انتفى وجوده. فإذا ترافق بانعدام الحاضنة الخارجية (الإقليمية والعالمية) تمت أسباب الزوال، وبات تحقق ذلك مسألة وقت لا غير.

تنظيم الدولة الإسلامية

لَلأسف! ارتبط وجود تنظيم الدولة الإسلامية بالغُولين: الجوع والخوف.

“أنا فرحان، لكنني متفائل بحذر”. هذا ما قلته في حلقة (لقد نهض الأسد) يوم 14/6/2014. وأوصيت بإقامة الدين لا إقامة الفقه؛ فإن الأول يجمع، والثاني يفرق ويعوق. وضربت مثالاً بسيطاً ألا وهو تغطية وجه المرأة، وكونه مسألة فقهية خلافية لا يصح إجبار النساء عليها. وكان تنظيم الدولة في الأشهر الستة السابقة قد أبدى مرونة واضحة تجاه أهل السنة، حتى من كان منهم في سلك الصحوات أو الجيش والشرطة.

لكن ما حصل بعد ذلك – لَلأسف! – كان يصب في صالح تنامي ذَينِك الغولين: الجوع والخوف!

ومن ذلك منع الناس من السفر، وتشديد إجراءاته بحيث يتعرض المخالف إلى عقوبات قاسية لا يطيقها معظم الناس، إضافة إلى ضيق فرص الكسب والعيش الكريم. يبدو أن القائمين على شأن (الدولة) ضعيفو الإلمام بعلم النفس الاجتماع. إن أبسط الناس يحس بوعيه أو غريزته أن الحكومة تدرك أنها مرفوضة؛ فهي خائفة إن سمحت للناس بالسفر أن تخلو أرضها من البشر، فتكون الدولة عبارة عن حكومة بلا شعب! أم إنها مضطرة إلى ذلك ولا بد؟ وكلا الأمرين فيه ما فيه من دلالات سياسية وتداعيات أمنية وعسكرية ليست في صالحها، ستتكشف عنها الأيام لاحقاً، ولا أظنها ستطول.

معظم المدن الخاضعة لسطوة التنظيم – الفلوجة مثلاً – تعاني حد الموت جوعاً، ومن الرعب حد الموت قتلاً. ومَنعُ الناس من مغادرتها وهي في غمرة هذه المعاناة المضاعفة جريمة مغلظة! وإذا كان الله تعالى قد أدخل النار (أمرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خَشاش الأرض). وهو مروي في (الصحيحين). وفي (صحيح البخاري) من حديث ابن أبي مُليكة، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: أنّ النبي صلى صلاة الكسوف، فقال: (دَنت مني النار حتى قلت: “أي ربّ، وأنا معهم”! فإذا امرأة حسبتُ أنه قال: تخدشها هرة). قال: (ما شأن هذه)؟ قالوا: (حبستها حتى ماتت جوعاً).. فما بال من اجترح حبس عشرات – بل ربما مئات – الآلاف من البشر لا من القطط!

الخطير في الأمر أن هذه الإجراءات القسرية ارتبطت بمصطلحات دينية جميلة ومقدسة في ذاكرة الناس: (الخلافة) و(منهاج النبوة) وغيرها. فأمست هذه الأسماء بغيضة إلى نفوسهم، كما بغّض الإخوان كلمة (الإسلامية) و(الجماعة) ( والإسلام هو الحل)، وربما حتى كلمة (الشريعة) إلى نفوسهم.

في رأيي أن أحد الأسباب الجذرية لهذا التداعي السيئ أن التنظيم ورط نفسه حين أعلن عن تحوله لا إلى دولة فحسب، وإنما إلى دولة خلافة أي (إمبراطورية)، قبل أن يهيئ أو يفكر بأسس نجاحها: المعنوية والمادية، ومنها كسب الحاضنتين: الداخلية، ومعها الإقليمية – على الأقل – من الحاضنة الخارجية. والسبب الأصيل في كل ذلك أنه – كالعادة منذ مئة عام – أحرق التنظيم مرحلة التأسيس المدني قافزاً مباشرة إلى العمل العسكري، مع إهمال الجهد السياسي. ولو أنه تعامل مع الأشياء طبقاً لحقيقته وحجمه وهو (التنظيم العسكري) دفاعاً عن حياض أهل السنة لكان قد استراح وأراح، ووجد كثيراً من الأنصار دون أن يتحمل مسؤوليتهم طبقاً لعنوانه واستحقاقات هذا العنوان الثقيل. وخير من ذلك التراجع مرحلة إلى الوراء استكمالاً للبناء المدني.

أنا أعلم أن هذا الكلام لا يقبله البعض. لا بأس فالأيام بيننا.

المؤسف – وما يؤسَف له كثير! – أن من لم تعلمه الأحكام ستتولى تعليمه الأيام. لكن ما هو أكثر ألماً وأشد حزاً في الحلاقيم أن الدفع: مقدماً ومؤخراً من جيب الجمهور!

أخيراً أقول لمن يهمه أمر (التنظيم): هل جاءت (الدولة الإسلامية) لتبقى أم لتفنى؟ وإن فنيت هل ستفنى وحدها؟ أم ستسحب معها جِبلّاً كثيراً من ذلك الجمهور المسكين؟

8/3/2016

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى