مقالات

معاوية ليس الفئة الباغية (2)

د. طه حامد الدليمي

القسم الثاني

سند الرواية

 

1. هذا النص : (عمار تقتله الفئة الباغية) غير موجود في أصل صحيح البخاري !

لا تكاد تجد نسخة لـ(صحيح البخاري) اليوم إلا وفيها هذا النص: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار) وفي موضعين منه. بينما عثرت على أكثر من عشرة علماء كبار ذكروا أو أشاروا إلى أن هذا النص (عمار تقتله الفئة الباغية) لا وجود له في أصل رواية البخاري! وإنما هو (ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار). قالها لسيدنا عمار عند بناء المسجد كأنه يرتجز، والمقصود بها كفار قريش الذين عذبوه وقتلوا أبويه. فكيف استقرت الرواية على النص الأول بينما لم تكن كذلك أول الأمر؟! وهؤلاء العلماء هم:

        1. شيخ الإسلام ابن تيمية: (مجموع الفتاوى: 35/74). قال: وأما الحديث الذي فيه (إن عماراً تقتله الفئة الباغية): فهذا الحديث قد طعن فيه طائفة من أهل العلم؛ لكن رواه مسلم في صحيحه، وهو في بعض نسخ البخاري. وقال (منهاج السنة:4/415): لكن في كثير من النسخ لا يذكر الحديث بتمامه، بل فيها: “ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار”. قلت: الغريب أن هذه النسخ الكثيرة اختفت اليوم وانقرضت حتى لا يكاد يحس لها من ذكر إلا طبعة بولاق سنة 1300هـ كما ذكر د. محمد طاهر البرزنجي. وربما لا وجود لهذه الطبعة إلا في المتاحف الأثرية!
  1. الإمام أبو بكر البيهقي (دلائل النبوة: 2/547)؛ نافياً وجوده في (صحيح البخاري).
  2. محمد بن فتوح الحميدي (الجمع بين الصحيحين: 2/462): نفى وجوده في (صحيح البخاري) أيضاً.
  3. أبو مسعود الدمشقي (أطراف الصحيحين). ذكر ذلك البيهقي في النص السابق قائلاً: “قال أبو مسعود الدمشقي من كتابه: لم يذكر البخاري هذه الزيادة”.
  4. الإمام الحافظ عبد الحق الإشبيلي (الجمع بين الصحيحين، 4/199) قال: لم ﻳﺨﺮﺝ ﺍﻟﺒﺨﺎﺭﻱ ﻓﻲ قتل ﻋﻤﺎﺭ ﺷﻴﺌﺎً.
  5. الإمام الحافظ جمال الدين المزي (تحفة الأشراف:3/427)، قال: ليس فيه (أي صحيح البخاري): “تقتل عماراً الفئة الباغية”.
  6. وممن ذكر عدم وجوده في أصل (صحيح البخاري) الحافظ ابن حجر( فتح الباري: 1/542) إذ قال: واعلم أن هذه الزيادة لم يذكرها الحميدي في الجمع وقال: إن البخاري لم يذكرها أصلاً. وكذا قال أبو مسعود. قال الحميدي: ولعلها لم تقع للبخاري أو وقعت فحذفها عمداً… إلى أن قال ابن حجر: ويظهر لي أن البخاري حذفها عمداً وذلك لنكتة خفية، وهي أن أبا سعيد الخدري اعترف أنه لم يسمع هذه الزيادة من النبي فدل على أنها في هذه الرواية مدرجة، والرواية التي بينت ذلك ليست على شرط البخاري.
  7. ومنهم ابن الأثير (جامع الأصول:9/43)؛ إذ ذكر حديثَي البخاري دون الزيادة. وجاء بكلام بعض العلماء مثل الحميدي في خلو صحيح البخاري منها.
  8. وقال عبد القادر الأرنؤوط محقق (الجامع للأصول:9/43): والصواب أن هذه اللفظة لم تكن موجودة أصلاً في صحيح البخاري، والذي يظهر لنا أن بعض النساخ المتأخرين أدخلوها على الأصل.
  9. وممن ذكره: الذهبي (تاريخ الإسلام:1/18).
  10. وابن كثير (البداية والنهاية:7/270 ط دار الفكر).
  11. واستمرت بعض نسخ (صحيح البخاري) المطبوعة خالية من تلك الزيادة إلى عهد قريب، مثَّـل لها د. محمد طاهر البرزنجي (حقيقة معاوية رضي الله عنه) فقال: الطبعة الأميرية مثلاً المعروفة بطبعة بولاق، التي نشرت سنة 1300 للهجرة بمصر لا تحتوي على هذه الزيادة المركبة في كتاب المساجد. وكذلك طبعة شرح ابن بطال لم تذكر هذه الزيادة المركبة في كتاب المساجد ولكنها ذكرت في الموضع الثاني (أي في الجهاد).

وقد يكون د. البرزنجي وضع يده على السر إذ يقول: فاستيقنت أن النص المطبوع بين أيدينا من صحيح البخاري والذي هو النسخة اليونينية (كتبت نهاية القرن السابع الهجري) المروية من طريق واحد عن البخاري وأعني الفربري قد وهم فيها بعض الرواة في هذه اللفظة.

 

2. تضعيف كثير من العلماء زيادة ( عمار تقتله الفئة الباغية )

وإن قيل: إن حديث (عمار تقتله الفئة الباغية) رواه مسلم، قلنا: إن لنا وقفات علمية هنا لا بد من أخذها بالاعتبار:

1. قال الإمام أحمد بن حنبل: روي في عمار: (تقتله الفئة الباغية) ثمانية وعشرون حديثاً، ليس فيها حديث صحيح. رواه ابن قدامة المقدسي في (المنتخب من علل الخلال، ص222) قال (الخلال): سمعت عبد الله بن إبراهيم قال: سمعت أبي يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول… (وساق النص السابق، وهو صحيح السند؛ فالخلال وعبد الله وأبوه ثقات كما حققته في كتاب “الملك الراشد”). وقال ابن قدامة: عن الخلال أخبرنا إسماعيل الصفار قال: سمعت أبا أمية محمد بن إبراهيم يقول: سمعت في حلقة أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبي خيثمة، والمعيطي، وذكروا: “تقتل عماراً الفئة الباغية”. فقالوا: ما فيه حديث صحيح. وقال ابن تيمية في (منهاج السنة:6/259): وطائفة من العلماء ضعفوا هذا الحديث، منهم الحسين الكرابيسي وغيره، ونقل ذلك عن أحمد أيضاً.

2. يظهر التحقيق أن الرواية فيها تناقض واضطراب كثير، فصلته في كتابي (الملك الراشد). مثال ذلك ما ذكره مسلم في (صحيحه) عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن قتادة أن رسول الله قال لعمار، حين جعل يحفر الخندق، وجعل يمسح رأسه ويقول: (بؤس ابن سمية تقتله فئة باغية). فإن هذا لا يستقيم؛ إذ الروايات والأدلة مطبقة على أن هذا عند بناء المسجد أول الهجرة لا عند حفر الخندق. إلا إذا قلنا بتعدد المناسبة وهو بعيد. وقد رد ابن رجب الحنبلي (فتح الباري، 3/306) ما ورد في رواية مسلم هذه من أن الواقعة كانت في حفر الخندق، ولم يقبل قول أبي نضرة في روايته عن أبي سعيد أن ذلك كان في حفر الخندق.

إن هذه الأقوال لا ينبغي أن نمر عليها مروراً عابراً. كما لا يصح تغطيتها وركنها في زوايا الإغفال! أما حيثيات الحدث، فتكشف لنا عما هو أهم. وقد سلفت سابقاً.

2. إن مثل هذه القضايا العظيمة التي يترتب عليها نتائج خطيرة لها تأثير مباشر أو غير مباشر على الدين والعقيدة والثقافة والتحصين الجمعي، لا ينبغي أن نخر صماً وعمياناً على حديث واحد ورد بشأنها. وقد توقف الأئمة الكبار مثل مالك وأبي حنيفة والشافعي إزاء أحاديث صحيحة وأخذوا بما أدى إليه اجتهادهم دون أن يلزموا أنفسهم بها. ولهم في قبول مثل هذه الأحاديث شروطهم المذكورة في كتب الأصول والفقه. وذلك في أحكام فرعية لا يضر الخطأ فيها، وليس في أمور خطيرة تتعلق بما ذكرناه آنفاً تنسحب في النهاية على دين المسلم ودنياه.

 

3. بطلان الرواية المنسوبة إلى عبد الله بن عمرو بن العاص في ( صفين )

ذكر الأخ يزيد كاتب المقال أن الحديث كان مشهوراً بين المسلمين، وأن عمرو بن العاص كان يرويه قبل صفين ويكرره… فلما قتل عمار احتار واحتار معه ابنه عبد الله ولم يجد معاوية سبيلاً للخروج من المأزق سوى التأويل… إلى آخر ما جاء في ذلك.

وأقول: كل هذا من صنع الرواة؛ فالروايات في ذلك لا تصح.

قال ابن رجب (فتح الباري:3/308): روى الأعمش عن عبد الرحمن بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول لأبيه يوم صفين: يا أبه، أما سمعت رسول الله يقول، وهم يبنون المسجد، والناس ينقلون لبنة لبنة، وعمار ينقل لبنتين لبنتين… إلى آخر الحديث. خرجه يعقوب بن شيبة في (مسنده) بتمامه. وخرجه الإمام أحمد والنسائي في (الخصائص) مختصراً، والحاكم. وفي إسناده اختلاف عن الأعمش. وقال (فتح الباري:3/306-307): خرجه يعقوب بن شيبة في (مسنده)، عن أبي مصعب، عن الدراوردي. وخرجه الترمذي عن أبي مصعب، لكنه اختصره، ولم يذكر فيه قصة بناء المسجد، وقال: حسن صحيح غريب من حديث العلاء. وإسناده في الظاهر على شرط مسلم، ولكن قد أعله يحيى بن معين، بأنه لم يكن في كتاب الدراوردي، قال: وأخبرني من سمع كتاب العلاء – يعني: من الدراوردي – ليس فيه هذا الحديث. قال يحيى: والدراوردي حفظه ليس بشيء، كتابه أصح.

المشكلة أن هذه الرواية المعلولة اعتمدها علماء كبار مثل شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى:35/74) وغيره. وبنوا عليها رأياً غاية في الضعف والغرابة، وهو أن معاوية بن أبي سفيان لم يجد أمامه للتملص من حكم النص سوى الجنوح إلى التأويل ليقول لعمرو بن العاص بأن الذين أخرجوه هم الذين قتلوه؛ فهم (الفئة الباغية). وروي بألفاظ بعضها منكرة وشنيعة لا تليق بحلم معاوية ونزاهة لسانه. مع أن الرواية لا تصح: سنداً ومتناً.

ولمن يرغب في التفصيل أقول:

1. رواية عبد الله بن عمرو الآنفة الذكر فيها أربع علل: راويها الأعمش وهو مدلس شديد التدليس (تدليس التسوية)، وقد عنعن. وهو شيعي، والرواية في خدمة التشيع. وروايته عن عبد الرحمن بن أبي زياد مرسلة. وابن أبي زياد ضعفه البخاري. إضافة إلى أن الأعمش مولى أصله من نواحي الري، والرواية في خدمة الفرس.

2. ورواية عمرو بن حزم، أوردها عبد الرزاق الصنعاني في (المصنف:23/464). وفيها أن عمرو بن العاص دخل فزعاً وهو يرجّع على معاوية، وأن معاوية قال له: دحضت في قولك أو بولك أنحن قتلناه؟ إنما قتله علي وأصحابه، جاءوا به حتى ألقوه بين سيوفنا. وقد تفرد بها الصنعاني، قال الذهبي: (تاريخ الإسلام:5/374) عن عبد الرزاق: حديثه محتج به في الصحاح. ولكن ما هو ممن إذا تفرد بشيء عد صحيحاً غريباً. بل إذا تفرد بشيء عد منكراً”. وقد صنفه بعض أئمة علم الرجال في الضعفاء، مثل العقيلي في كتابه (الضعفاء الكبير، 3/107) ونقل عن علماء (الجرح والتعديل) من الطعن في صدقه، وأخباره أعاجيب.

والرواية مخرومة بعدة علل؛ أولها: تفرد عبد الرزاق الصنعاني، وما تفرد به الصنعاني فمناكير لا يؤخذ بها. وثانيها: تشيعه وقوله السيئ جداً في معاوية وأبيه رضي الله عنهما. وثالثها: صنفه البعض مثل العقيلي في الضعفاء. ومنهم من اتهمه بالكذب.

وهذا كله وغيره مما يؤيد نظرة الريب التي كنت ألقيها على متن رواية مسلم لضعف توافقه مع الواقعة. إن الحكم على ما جرى من القتال بين الصحابيين الجليلين: علي ومعاوية ينبغي أن يبنى على أساس حيثيات الواقعة فهو الأصل. ثم من بعد ننظر فيما روي فيها. لاسيما وأن أمور النزاع والقتال تتدخل في الحديث عنها الميول الذاتية: الشخصية والحزبية والقومية، ويكثر في موارده الأهواء. ولعل هذا سبب اضطراب الروايات.

وبهذا يتبين ضعف قول الكاتب عن رواية (عمار تقتله الفئة الباغية) أنها “من الأحاديث المتواترة عند المسلمين”. بل الرواية في أصلها تحوم حولها كثير من الشبهات. وزياداتها كلها ضعيفة باطلة من رواية الشيعة والموالي وممن يدلسون تدليس الكذب (التسوية) وممن لا يؤخذ عنهم إذا تفردوا. فكيف إذا كان ما يروونه فيه طعن مباشر بجمع كبير من الصحابة! وعلى رأسهم معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين.

9/3/2016

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى