مقالات

صبية فهمت آية عجز عنها أفذاذ العلماء كيف نقرأ القرآن (2)

د. طه حامد الدليمي

معاذ بن جبل

من روائع القصص التي تفتح قلوبنا لتلقي القرآن الكريم وفهمه والتأثر به، ما قاله الصحابي الجليل معاذ بن جبل عندما حضرته الوفاة لِتلميذه مَالِك بن يَخامر السكسكي، وقد رآه يبكي، فقال: والله ما أبكي على دُنيا كنت أُصِيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك. فقال معاذ بن جبل : إن العلم والإيمان مكانهما مَن ابتغاهما وَجدهما؛ اطْلُب العِلْم عند أربعة: عند عويمر أبي الدرداء، وعند عبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وذَكَر الرابع، فإن عَجِز عنه هؤلاء فسائر أهل الأرض عنه أعْجَز، فعليك بِمُعَلِّم إبراهيم صلوات الله عليه.

انظروا……..! “فعليك بِمُعَلِّم إبراهيم صلوات الله عليه”. وهو الله سبحانه جل في علاه.

وهذا عام لكل الناس، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)، وكرر ذلك أربع مرات في سورة واحدة هي (القمر:الآيات:40،32،22،17).

إن أول وأعظم ما يستعان به على تدبر كتاب الله تعالى اللجوء إليه، والانطراح بين يديه، وطرح بساط الافتقار إليه، ودعاؤه والإلحاح في طلب العلم وفتح مغاليق الفهم. ويتم ذلك بشيئين: دعاء وعمل. وفي سورة الفاتحة صورة رائعة لذلك؛ فلما دعا العبد ربه: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (الفاتحة:6)، جاءت الاستجابة مباشرة: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2): “اهدنا، هدى”. أي من أراد الهداية فهذا الكتاب دونكموه.. اقرأوه وافقهوه، واعملوا به.

 

أحمد ابن تيمية

وفي صراط الذين أنعم الله عليهم بيان وائتساء. فهذا شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله، على سيلان ذهنه وسعة علمه وجلالة قدره، يقول: ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مئة تفسير ثم أسأل الله الفهم وأقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني. وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها وأمرغ وجهي في التراب وأسأل الله تعالى وأقول: يا معلم إبراهيم علمني، يا مفهم سليمان فهمني.

يقول تلميذه ابن القيم: وكان شيخنا كثير الدعاء بذلك. وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول: يا مُعَلِّم إبراهيم عَلِّمْنِي، ويُكْثِر الاستعانة بذلك اقتداءً

 

الصبية

وإليكم هذه القصة التي شهدتها بنفسي.. قال جلال الدين السيوطي: من الآيات ما أشكلت مناسبتها لما قبلها: من ذلك قوله تعالى في سورة القيامة: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) (القيامة:16) الآيات فإن وجه مناسبتها لأول السورة وآخرها عسر جداً، فإن السورة كلها في أحوال القيامة حتى زعم بعض الرافضة أنه سقط من السورة شيء، وحتى ذهب القفال فيما حكاه الفخر الرازي أنها نزلت في الإنسان المذكور قبل في قوله: (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) (القيامة:13). قال: يعرض عليه كتابه فإذا أخذ في القراءة تلجلج خوفاً فأسرع في القراءة، فيقال له: لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا أن نجمع عملك وأن نقرأ عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالإقرار بأنك فعلت ثم إن علينا بيان أمر الإنسان وما يتعلق بعقوبته.. انتهى. وهذا يخالف ما ثبت في الصحيح أنها نزلت في تحريك النبي لسانه حالة نزول الوحي عليه([1]).

لكن هذا الأمر الذي تعسر على العلماء، ومنهم السيوطي نفسه، ولم يجدوا له جواباً شافياً، نطقت به صبية لي لم تتجاوز عامها الرابع عشر!

كان ذلك بعد مدة من قراءتي لقول السيوطي وعجزي عن إدراك المناسبة المطلوبة. وفجأة ومن دون تفكير طفا المعنى المناسب على ذاكرتي وكأنني ألمسه بيدي! كنت أصلي صلاة الصبح بالعائلة، فقرأت بهم سورة (القيامة)، فاكتشفت فجأة ودون مقدمات أن (الجمع) هو المعنى الرابط بين الآيات. التفتّ بعد انتهاء الصلاة لأخبرهم بهذه المفارقة. فإذا ابنتي فاطمة تقول مباشرة قبل أن أبين لهم ما اكتشفته: الأمر سهل. هناك معنى واحد تدور حوله الآيات هو الجمع المذكور مع العظام، ومع الشمس والقمر، ومع القرآن في صدر النبي . فالذي يقدر على إحياء الإنسان وجمع عظامه بعد الموت، وجمع الشمس والقمر عند الخسوف، قادر على جمع القرآن في صدر النبي دون نسيان بلا حاجة لتحريك اللسان وترديد الكلام! فهذه صبية اهتدت في لحظة إلى ما عسر تحصيله على أفذاذ العلماء في قرون!

 

الفاروق وهشام بن العاص

ومن أجمل ما قرأت في ذلك.. ما قصه علينا سيدنا الفاروق فقال: اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاصي بن وائل السهمي التناضب (موضع فوق سرف على مرحلة من مكة) من أضاة بني غفار (أرض تمسك الماء فيتكون فيها الطين) فوق سَرِف، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه. فأصبحت أنا وعياش عند التناضب، وحبس عنا هشام، وفتن فافتتن… وعندما نزلت الآية (قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً) الآية، كتبها عمر وأرسل بها إلى هشام بن العاصي بمكة، فوجد صعوبة في فهمها، فدعا الله أن يفهمه إياها، فألقى الله في قلبه أنها نزلت في أمثاله. فلحق برسول الله بالمدينة[2].

ولنعلم أن هذا في حاجة إلى محاولة وصبر ومطاولة يثبت فيها الصادق من غيره، وسيجد الصادقون بعد كل محاولة: ذاتية أو بالنقاش مع آخرين أن مغاليق فهم القرآن قد انفتحت لهم. وأنهم يقعون على معان لا تحيط بها الأفهام ولم تخطها الأقلام.

31/5/2016

___________________________________________________________________________________________

  1. – الإتقان في علوم القرآن (2/221-222)، السيوطي، دار الكتاب العربي، 1419/1999.
  2. – رواه ابن حجر مختصرة بقوله: وأخرج بن السكن بسند صحيح عن ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: اتعدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص… الحديث.إ.هـ. انظر الإصابة في معرفة الصحابة، 3/223، أحمد بن حجر العسقلاني، المكتبة الشاملة.
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى