مقالات

بين القراءة والسجود قضية ! تمارين عملية في تدبر القرآن الكريم (2)

د. طه حامد الدليمي

في المقال السابق كان التمرين عن العلاقة بين أول سورة (العلق): (اقرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)، وآخرها (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ).

والآن جاء دور النظر في وسط السورة.. في بعض ما توسط بين القراءة والسجود.

بين (اقرَأْ) و (اسْجُدْ) جاء قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى) ليحتل موقعاً وسطاً بينهما. وإذا كان العلم يبدأ بالحيرة، فالسؤال بداية الجواب إن لم يكن جزءاً منه.

لمَ لمْ يتمَّ الانتقال من القراءة والعلم إلى السجود والعبادة إلا عبر النظر إلى العدو؟

يحضرني في هذا المقام سؤال آخر:

لمَ توسطت سورة (الكافرون) بين سورتَي (الكوثر) و(النصر)؟

وإذا كان الفاصل المكاني بين السورة الأولى، التي وعد الله بها نبيه بانبتار الشانئين، والأخيرة التي تحقق فيها الوعد فكان النصر للمؤمنين.. لا يتعدى مساحة سطرين، فإن الفاصل المكاني استغرق خمسة عشر عاماً مثلت الزمن الذي تطلبه تنفيذ ما في سورة (الكافرون) من مفاصلة وبراء من الكافرين، ومواصلة وولاء للمؤمنين. مساحة هائلة من الجهد والألم، والعمل والأمل.. وصلت الهوة الفاصلة ما بين (اقرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)، وبين (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ). ودون ذلك لا تكون القراءة ربانية ولا السجود قربى.

القرآن الكريم يريد منا قراءة ساجدة، كما يريد منا سجوداً قارئاً.

والقراءة كما تكون لسطور القرآن أمام عينك، تكون لحركة الإنسان من حولك. وأوله هذا (الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى). لا تغفل عنه، ولا تشغلنك القراءة ولا السجود عن وضعه تحت دائرة الرصد ومحيط النظر؛ إنه يريد محوك أنت وقراءتك.. أنت وسجودك.. أنت ومسجدك: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ … لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) (التوبة،10،8). وكذلك يفعلون في كل صقع وحين.. صدق الله وكذبت لحى وشوارب الوطنيين.

لا قراءة ولا سجود معتبراً ما لم يقترن بهمِّ قضية تناكف بها الطاغي، الذي تجاوز طغيانه نفسه التي عتت عن السجود لربه، إلى غيره فصار (يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى)! حتى تزيحه من أمامك فتصفو لك القراءة، ويحلو لك السجود، وتسمو بك القربى.. ممن؟ من العلي الأعلى!

هل وصل المقصود؟

هكذا يفسر القرآن القرآن!

الدين إيمان .. الدين نصرة

ولا عجب!

فالدين الدين قائم على ساقين: الإيمان والنصرة: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران:81).

أرأيت ماذا قال بعده؟!

(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:82)!

وأرأيت ماذا قال بعده؟!!

(أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (آل عمران:83)!

وأرأيت ثم أرأيت بم ختم هذا الخطاب المزلزل؟!

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)!

أرأيت هذا الخطاب لمن؟!

لأكرم الخلق.. الأنبياء عليهم السلام!

فكيف بمن سواهم!!!

والآن تلمس قلبك..!

ماذا وجدت؟

إخوة الإيمان!

القراءة والسجود إيمان. ومحاربة الناهين عنه نصرة.

ولا إيمان بلا نصرة، كما لا نصرة بلا إيمان.

وصدق الله تعالى إذ يقول: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:142)؟!!!

3 رمضان 1437

8 حزيران 2016

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى