مقالات

المريض الوطني .. قصة قصيرة

د. طه حامد الدليمي

Untitled

دخل عيادة الطبيب وهو يصرخ:

– أريد حلاً! أريد علاجاً؟

رفع الطبيب عينيه عن المجلة الطبية الموضوعة فوق مكتبه، وبادل بين نظارتيه وقال:

– لا تقلق اهدأ رجاء، دعنا نعرف ما العلة أولاً؟

واستمر المريض بالصراخ:

– دكتور! الألم يذبحني، أرجوك؛ أريد علاجاً.

– أرني موضع الألم؟ متى بدأ؟ هل هو من النوع المستمر أم المتناوب؟ ماذا أكلت؟ هل سقطت من شاهق؟ …؟

واستمرت الأسئلة، واستمر المريض في هذيانه لا يجيب بسوى الصراخ بلازمته المكررة: أريد علاجا، أريد مسكناً، ، أريد… أريد (بلابوش). ثم فجأة هبط عن الكرسي إلى أرضية العيادة وأخذ يتقلب ويتأوه ويردد: “أريد علاجاً.. أريد حلاً”!

قام الطبيب عن كرسيه وأخذ بيد المريض إلى سرير الفحص وأضجعه عليه. ثم بعد أن أتم عملية الفحص، كتب له بعض التحاليل المختبرية مع صورة شعاعية لبطنه. ثم حقنه بمهدئ مناسب. وأوصى مرافقيه الذين لم يقدموا أي معلومة مفيدة، بأن يسرعوا في تنفيذ ما كتبه للمريض من تحاليل وأشعة. وراح يفكر في تشخيص المرض من خلال الملاحظات والفحص الأولي.

وبعد ثلاثة أيام…

عاد المريض لكنه لم يكن قد أجرى الفحوصات المطلوبة.

نفخ الطبيب بانزعاج، وقام فأزاح الستارة عن الشباك المطل من الطابق الثالث للعمارة على شارع الرشيد قرب ساحة الرصافي. وتكرر المشهد السابق بحذافيره! سوى أن الطبيب شدد كثيراً هذه المرة على ضرورة إجراء الفحوصات، وقال:

– أتوقع وجود حصاة كلوية، لكن لا بد من التأكد قبل البدء بالعلاج المطلوب.

نظر الطبيب إلى أقفية المجموعة وهي تغادر المكان، وتذكر كلمة لآينشتاين: “لو كان لديّ ساعة لحل مشكلة، فسأرصد خمساً وخمسين دقيقة للتفكير في المشكلة وخمس دقائق فقط للتفكير فى حلها”. وقال يحدث نفسه: كم هي عظيمة هذه الحكمة! قانون كوني يتجاوز الفلك والفيزياء والرياضيات إلى السياسة والاقتصاد والاجتماع، ولا ينسى أن يخفق بأجنحته الرفرافة فوق رؤوس المرضى ويمسح بيده الحانية على وجوههم المتعبة، ويضع إصبعه الرفيق على موضع الألم!

**

لم يتغير المشهد السابق في المرات القادمة. واضطر الطبيب رحمةً بالمريض إلى أن يبدأ العلاج دون وجود أي فحص مختبري. لكن المريض سخر من الطبيب. وقصد من توه دكان أعشاب في سوق الشورجة قريباً من نهايته المطلة على شارع الجمهورية.

وبعد عامين…

جيء بالمريض محمولاً إلى العيادة. كان يئن بصوت خفيض ويردد كلماته نفسها:

– أريد حلاً! أريد علاجاً.

نظر الطبيب إلى وجه المريض، ومن النظرة الأولى عرف كل شيء. كان الوجه شاحباً لكن بلون التراب، ونفَسه يتسارع مع رائحة كريهة مميزة. هز الطبيب رأسه بأسف وقال ساخراً يخاطب المرافقين:

– خير؟

– ماذا نفعل؟ ما تركنا عشاباً ولا طبيباً ولا مُعَزماً إلا وذهبنا إليه. لكن المريض يرفض العلاج حتى وصل إلى ما ترى يا دكتور! دكتور، (الله يخليك) نريد حلاً؟

نظر الدكتور إلى الشباك. كانت الستارة مزاحة، لكن النوافذ موصدة. قام ففتح إحداها وأخذ نفساً عميقاً، تعوذ من الشيطان ثم قال باللهجة الساخرة نفسها:

– طولتم الغيبة هذه المرة!

– رجاء يا دكتور، المريض يتلاشى من بين أيدينا! انصحنا؟ وجِّهْنا؟ اعمل معروفاً؟

– لقد فات الأوان. ليس لكم من علاج سوى الذهاب إلى وحدة غسل الكلى. ثم إن شئتم هيأنا الأمور لزرع كلية له، ويفضل أن تكون من أحد أقربائه.

– أما عندك غير هذا الحل؟ نريد حلاً دون هذه المشاكل.

– نعم عندي حل.

وصاح المرافقون بصوت واحد، والمريض ما زال يئن ويردد: “أريد علاجاً؟ أريد حلاً”:

– ما هو يا دكتور؟!

– وحسب المزاج، ويريحكم من كل عناء.

– هذا هو العلاج!

ونظر بعضهم إلى بعض وتكلم أحدهم وكأنه ينطق بألسنتهم جميعاً:

– ألم أقل لكم؟

وقال الطبيب:

– تندلون سوق هرج؟!

وانفغرت الأفواه استغراباً!

– سوق هرج!

– نعم سوق هرج. ألا تعرفونه؟

– بلى نعرفه، لكن ما علاقة هذا بهذا؟

واستمر الطبيب في كلامه كأنه لم يسمع شيئاً:

– أول ما تدخلون من عند جامع الأحمدي، على شمالكم في منتصف الزقاق محل لعمل المساحي…

– المساحي؟!

– نعم المساحي. تشترون مِسحاة زينة، ويفضل أن تكون (كَرَكْ أبو الطير)، ثم غير بعيد عند دائرة الطب العدلي توجد مقبرة أظنها (مقبرة الأتراك)، وهناك تحفرون حفرة. وبقية تفاصيل العلاج الناجع تأتيكم تباعاً.

ثم أردف غاضباً

– هيا بسرعة، ألعن أبو هالشوارب!

16/11/16

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى