مقالات

استخلاف النبي أبا بكر الصديق

د. طه حامد الدليمي

يتوهم أصحاب الثقافة الرائجة أن ترك الحاكم السابق لأعظم أمر يقض مضجعه ويتعلق بأمن المجتمع واستقراره – ألا وهو انتقال السلطة – دون حسم.. هذا الترك هو أحد نوعي الشورى المفروض اتباعها في انتقال السلطة. والنوع الآخر من الشورى أن يحسم أهل الشأن هذا الأمر في حياة الحاكم حين تدنو وفاته. لكن لا يجوز لابنه أن يكون ضمن المرشحين. أما علي فيتأولون له بأنه قال: “لا آمركم ولا أنهاكم”، وغيرها من الروايات المشابهة التي لا تصح متناً ولا سنداً. ولو صحّ ففيه دلالة على أنه رضي بتولية ابنه واكتفى عن ذلك بالسكوت حين رآى أصحابه يريدونه.

أن هذا الفهم للشورى في انتقال السلطة لم يفعله نبي الهدى ولا أبو بكر ولا عمر ولا علي ولا معاوية . وهو ليس أكثر من نوع من أنواع الفوضى لا يمكن أن يرتكبه حاكم عاقل إلا إذا غلب على أمره.

ولقد حصل هذا مرتين على ذلك العهد فكان سبباً مباشراً لأن تنزلق الأمة إلى فوضى حرب داخلية مدة خمسة عشر عاماً!

الأولى: حين سلب البغاة الأمر من سيدنا عثمان فلم يتمكن من حسم الأمر ونقل السلطة إلى أحد من بعده. فكانت فتنة وقتالاً تتابع خمس سنين!

والثانية: يوم عجز معاوية الثاني – لضعفه وسوء تدبيره غفر الله له – عن حسم الأمر، فانزلقت الأمة ثانية إلى حرب داخلية طاحنة استمرت عشر سنين!

انظروا إلى ضعف عقول من يمدح معاوية الثاني على هذا الصنيع السيئ! وكأنهم يريدون غرس ثقافة الفوضى في الأمة، ويسمونها شورى!

أصل واحد وطرق مختلفة لتنفيذه

رسول الله لم يترك الدنيا حتى حسم أمر تولية من يخلفه في الحكم. وكذلك من ذكرناهم من الصحابة الكرام. هذا أصل لم يختلفوا فيه، لكن كل واحد نفذه بطريقة تختلف عن صاحبه تبعاً لما يقتضيه ظرفه. لم يتفقوا في الطريقة لكنهم اجتمعوا في الأصل وهو حسم تولية الأمر.

النبي ولى أبا بكر بطريقة تتناسب وما يتمتع به الصديق من تميز فائق على جميع الصحابة، هذا من ناحية، وتتناسب مع الوضع المستقر من ناحية ثانية.

لقد همَّ في البداية أن يكتب لتوليته كتاباً لكنه تركه لعدم الحاجة إليه، وعبر عن عدم الحاجة هذه بقوله: (يأبى الله ويدفع المؤمنون) رواه البخاري. وفي لفظ لمسلم: (ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر). أما أبو داود فرواه بلفظ: (يأبى الله ذلك والمسلمون). واكتفى بتقديمه في الصلاة طول أيام مرضه . وأصر على تقديمه دون سواه كما سيأتي بيانه. عدا أن الصديق لم يكن له من منافس يستلزم تأكيد توليته دون غيره بأكثر من ذلك.

أما أبو بكر فعين عمر خلفاً له، وكتب في ذلك كتاباً لحاجة الظرف إلى مثله. وعمر عين ستة يختارون من بينهم خليفة لهم. وعلي عين الحسن عند إصابته. ومعاوية عين يزيد خشية أن يتخطفه الموت فيترك الأمة فوضى، ففعل ذلك قبل وفاته ببضع سنين. وهذه ميزة له يشكر عليها.

عهد النبي لأبي بكر الصديق بالخلافة

لقد عهد النبي إلى أبي بكر الصديق بالخلافة عهداً واضحاً لا مراء فيه. والقول بأنه لم يستخلف قول مرجوح لا يثبت أمام الدليل؛ والأدلة على ذلك متضافرة:

  1. روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قال النبي : (لقد هممت، أو أردت، أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد؛ أن يقول القائلون، أو يتمنى المتمنون. ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون).
  2. روى الحديث مسلم في صحيحه عن عائشة بلفظ: قالت: قال لي رسول الله في مرضه: (ادعي لي أبا بكر أباك، وأخاك حتى أكتب كتاباً؛ فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر).
  3. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: لما حُضر رسول الله وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال النبي : (هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده). وفي لفظ للبخاري: (ائتوني بكتاب)، وفي لفظ آخر: (بكتف). وفي لفظ لمسلم: (ائتوني بالكتف والدواة، أو اللوح والدواة). فهذا تصريح بأن النبي همّ بأن يكتب كتاباً يعهد فيه بالخلافة إلى أبي بكر، لكنه وجد أن الأمر لا يحتاج إلى ذلك؛ لمنزلة أبي بكر، وأن المسلمين يأبون أحداً غيره، فتراجع عن تنفيذ ما همَّ به.
  4. روى البخاري ومسلم بألفاظ متعددة عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما ثقل رسول الله جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: (مروا أبا بكر أن يصلي بالناس). فقلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى ما يقم مقامك لا يُسمع الناس، فلو أمرت عمر. فقال: (مروا أبا بكر يصلي بالناس). فقلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر. قال: (إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر أن يصلي بالناس). فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله في نفسه خفة، فقام يهادى بين رجلين، ورجلاه يخطان في الأرض، حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب أبو بكر يتأخر، فأومأ إليه رسول الله . فجاء رسول الله حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي قائماً، وكان رسول الله يصلي قاعداً، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله والناس مقتدون بصلاة أبي بكر .

فكأنه قال: أنا قعدت، وهذا أوان قيام أبي بكر فيكم.

  1. روى البيهقي بسنده عن أنس قال: آخر صلاة صلاها رسول الله  مع القوم، في ثوب واحد ملتحفاً به خلف أبي بكر. قال ابن كثير: وهذا إسناد جيد على شرط الصحيح، ولم يخرجوه. وهذا التقييد جيد بأنها آخر صلاة صلاها مع الناس صلوات الله وسلامه عليه[1]. إ.هـ. فهي غير الصلاة الأولى. وهنا، في آخر صلاة صلاها النبي ، صلاها خلف أبي بكر!
  2. روى أبو داود في (السنن) عن عبد الله بن زمعة، قال: لما استُعز برسول الله وأنا عنده في نفر من المسلمين دعاه بلال إلى الصلاة فقال: (مروا من يصلي للناس). فخرج عبد الله بن زمعة فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائباً، فقلت: يا عمر قم فصل بالناس. فتقدم فكبر، فلما سمع رسول الله صوته – وكان عمر رجلاً مِجهراً – قال: (فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون). فبعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة، فصلى بالناس.

وفي رواية: لما سمع النبي صوت عمر قال ابن زمعة: خرج النبي حتى أطلع رأسه من حجرته ثم قال: (لا لا لا، ليصل للناس ابن أبي قحافة)، يقول ذلك مغضباً.

روى أبو داود الحديثين في (باب في استخلاف أبي بكر)[2].

ولا شك في أن تقديم النبي أبا بكر للصلاة مدة مرضه، وإصراره على ذلك، مع إنكاره أن يتقدم أحد غيره ول كان عمر! ثم صلاته بأبي بكر، وأبو بكر إلى جنبه يصلي بالناس. ثم صلاته خلف ابي بكر في آخر صلاة صلاها بالمسلمين.. كل ذلك دليل واضح على استخلافه.

فالنبي استخلف أبا بكر، ولكن بما يتطلبه الوضع، ولكل وضع ما يناسبه.

3/12/2016

___________________________________________________________________________________________

  1. – البداية والنهاية، 5/255، ابن كثير الدمشقي (ت 774هـ).
  2. – سنن أبي داود، 4/215-216، أبو داود سليمان بن الأشعث الأزدي السِّجِسْتاني (ت 275هـ)، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت. سكت عنهما أبو داود، وقد قال في رسالته لأهل مكة: (كل ما سكتّ عنه فهو صالح). وصححهما الألباني في (صحيح أبي داود).
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى