مقالات

بين الأبيض والأسود ألوان أُخرى .. السعودية – المائعون – المتشددون

د. طه حامد الدليمي

دعوني قبل كل شيء أقول لكم شيئاً.. قد يزيد فيكون أكثر من شيء.

– “ليس العاقل من عرف الخير من الشر. إنما العاقل من عرف خير الخيرين وشر الشرين”. حكمة قالها سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

– حكمة بليغة جداً لكنها، في الوقت نفسه، خطيرة جداً؛ حين يتكئ عليها قرد مائع، يسوغ ألوانه المتعددة ويُسَوِّق وجوهه المتلونة. ويجهلها وحش ضائع بَدَّلَ – بإصراره على لونيه اللذين لا يرى سواهما – نعمةَ اللهِ كفراً وَأَحلَّ قومَهُ دارَ البوارِ.

– بعد رحلة قاربت عقدين من علاقات وصداقات مع الإسلاميين، صرت أنفض أصابعي منهم. وكتبت في سنة 2001 كتابي (لا بد من لعن الظلام) أنتقد فيه ميوعتهم، لا سيما مع الشيعة، ثم تبين لي أن الصواب أن لا أقتصر على نفض أصابع يدي بل أتجاوز به إلى يديّ بل ورجليّ كلتيهما. لم أكن أدري آنذاك أن النخر والسوَس يتوطن الجذور!

– في حدث صادم ذات يوم من أيام سنة 2014 خرجتُ على قناة (وصال) أعبر، رغم صعوبة الظرف البالغة، عن شيئين: “فرح غامر وتفاؤل حذر”، حين اجتاح (تنظيم الدولة) الموصل وما حولها، وتهاوت لضرباته فلول الجيوش الشيعية في مشهد مذل يبقى يلاحقهم لألف عام قادم، هذا إن بقوا على مسرح الوجود إلى مئة عام أخرى. وأوصيت (التنظيم) أن ينشغل بإقامة الدين لا إقامة الفقه؛ فإن الأول يوحد المجتمع ويقيمه، والثاني يفرقه ويقعده.

لم أكن أدري، بعد تجربة خمسة أشهر بعد انتهاء (الحراك)، أبدوا فيها من المرونة ما جعلني أميل إلى أن تنظيم القاعدة في العراق ربما استفاد من الأحداث التي لم يجن منها سوى الخراب فصار أكثر مرونة في التعامل مع أهله وناسه، والدليل أنهم كانوا يمسكون بالصحوات والشرطة ثم يطلقونهم مكْتفين بالاستتابة. هذا شيء جديد ظننته تحولاً في أطر تفكيرهم.. لم أكن أدري أنها ليونة مصطنعة. وأن الفرح والتفاؤل بعيد عن قلوب ووجوه المتطرفين. لم أكن أدري أنها بداية الشوط لإبادة السنة من شرق العراق إلى غربه.

– وانظروا إلى ما فعل الإخوان المسلمون وحزبهم الإسلامي بسنة العراق! هل لاحظتم هذه المفارقة الغريبة: أهل السنة في العراق يضعفون والإخوان المسلمون يسمنون! في عالم الطب هذه المفارقة نلاحظها مع الورم سيما الخبيث. وانظروا ماذا فعلت (داعش) بسنة العراق. لقد أحالت ديارهم خراباً تنعق بين أطلاله غربان الشيعة. وصدق فيهم وفي إخوانهم المائعين قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) (إبراهيم:28)!

– في (منهاجنا) كان نص الميزة التاسعة من (مميزات المشروع السني) أنه مشروع: “يعيد للأمة هويتها؛ لأنه رباني: يمتاز بالثبات في العقيدة والعبادة والأصول والقطعيات، وبالمرونة في متحرك المواقف والفروع والظنيات. بين مشاريع إسلامية معاصرة: إما مائعة أو لينة في عقيدتها ومبادئها، وإما جامدة أو متشددة في سياستها ومواقفها”.

اللون الأسود والأبيض إذن من خصائص العقيدة والعبادة والأصول والقطعيات، وتعدد الألوان من خصائص المواقف والفروع والظنيات. لقد عكس المبدلون الأمر، فأماع الإسلاميون الثابت مع المتحرك، بينما جمّد المتطرفون المتحرك مع الثابت، (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)!

إطاران للتفكير

يوجد إطاران للتفكير:

– إطار ينظر إلى الحركة غائباً عن المسار الذي تجري فيه. فيغوص في إشكالات لا أول لها ولا آخر. كمن ينظر إلى ثوب يحتوي على بقع تخالف لونه، وشقوق وفتوق؛ فيريد لصاحبه أن يخلعه وإن لم يكن لديه من بديل، ولا يضع المخبول في باله أن العري التام هو النهاية التي سيؤول إليها صاحب الثوب. وأقول: “المخبول” استناداً إلى قول سيدنا عمر: (ليس العاقل من عرف الخير من الشر إنما العاقل من عرف خير الخيرين وشر الشرين). لقد انتهى المخبول بصاحب الثوب إلى العري وهو أشر من شر التستر بثوب ناقص. وحرمه من خير الثوب الناقص طلباً للخير المطلق، لكنه مفقود. لهذا قيل: “السياسة فن الممكن”. وأصحاب هذا الإطار هم وقود الفتن وجنود الحروب بالوكالة عن الغير.

– وإطار ينظر إلى المسار العام للحركة، وإلامَ ستؤول، فيغض الطرف عن بعض الحركات الخاطئة ما دامت المحصلة خيراً وإن كان أقل من الخير المطلق.

في رمضان سنة 2012 التقيت أحد الأشخاص الخليجين المعروفين، انتقدني على موقفي من الحكومات الراهنة، وأنني أحمد الله على أن (الربيع العربي) لم يصلها. فقلت له: البيت الناقص خير من السكن في العراء مُقَتَّلاً ومشرداً. قل ما تشاء في ملك البحرين لكنه في الواقع خير لسنة البحرين بل للبحرين كلها ألف مرة من إيران وسيطرة الشيعة على البلد. لهذا أنا لا أملك خياراً في نهاية المطاف سوى أن أصطف مع ملكها، وإلا هات البديل ولا بديل سوى إيران وشيعتها. وكان يكفيكم يا أهل الخليج أن تعتبروا بما حل في العراق وتشكروا الله تعالى على نعمة الأمن والرزق والدين التي تتمتعون بها.

ثم قلت: بالله عليك لو ذهب النظام السعودي ماذا ستكون النتيجة؟! أليس حرباً أهلية لن يخرجوا منها قبل عشر سنين، لكن من بين الخراب والأطلال ورايات غربان الشيعة ترفرف على شرفات الكعبة؟! هل لديك البديل الأفضل دون الفوضى؟

أنا أتكلم بلغة الناظر في العاقبة والمآل، وهي لغة المتقين الذين وصفهم الله سبحانه فقال: (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (هود:49). فالعاقبة هي موضع نظر المتقين وسعيهم وهدفهم. وبهذا ينتظم الإطار والحركة والمسار. وللمتعجلين خسارهم وبوارهم. نعم لم تقف دول الخليج مع سنة العراق وبقيت تتفرج عليهم، بل بعضها ارتكبت ما ألحق الأذى بهم. وقد صرحت أكثر من مرة فقلت: أما عندكم حل وسط بين صدام والشيعة؟ وبين داعش وماعش؟ أعني: لماذا حلولكم لا تقوم إلا على معادلة صفرية لا وسط فيها؟ إما صدام وإما الشيعة. ثم صارت إما داعش وإما الشيعة. وإن كانت النتيجة في الحالتين إبادة السنة!

لكن هل يعني هذا أن تتكون لدينا شخصية انتقامية تقوم على معادلة: “عليّ وعلى أعدائي”. ولتذهب الحكومات والدول إلى الهاوية وإن كان في ذلك إلحاق الضرر بالجميع: حكومات وشعوباً بمن فيهم البقية الباقية من سنة العراق؟! هذا تصرف مخبول مخالف للشرع الحكيم والعقل الرشيد.

السياسة السعودية – نظرة عامة مختصرة

في العراق شارك المائعون ومعهم المتشددون في تدمير السنة حتى غدت ديارهم بلاقع، وعاد أعزة القوم أذلة. مع تميز المتشددين بالدعوة إلى تدمير الدول السنية جميعاً بحجة أن حكامها لا يُحكّمون الشريعة.

تعالوا في جولة سريعة ننظر في نتائج السياسة السعودية: هل هي بمجملها في صالح السنة أم لا؟

– قاد الرئيس الأمريكي الشيعي الأصل باراك حسين أوباما مشروعاً خطيراً يقوم على تمكين إيران وشيعتها من دول المنطقة بعد إسقاط أنظمتها عن طريق (الفوضى الخلاقة) وفي ظني أنه دعم الإخوان المسلمين أيضاً. ونحن نعلم أن الإخوان وإيران والشيعة وحدة واحدة في الموقف السياسي والأمني. وكلاهما متفاهمان مع الغرب.

– عملت السعودية على رفع مستوى إنتاج النفط فهبطت قيمة الدولار كثيراً. وكانت أول خطوة في المعركة أثرت على اقتصاد إيران والعراق الشيعي تأثيراً ظهرت آثاره لاحقاً بقوة!

– شجع الأمريكان الحركات الشيعية المسلحة في مملكة البحرين، وأغروا إيران بغزوها. فقررت السعودية في خطوة لافتة أن تتدخل عن طريق (درع الجزيرة) لتحمي البحرين؛ فكانت صفعة أخرى مذلة لإيران وأمريكا.

– وحين استفحل الشيعة الحوثة في اليمن فاحتلوا صنعاء كانت (عاصفة الحزم) لطمة على أنف إيران وأوباما. ولولاها لتمكنت إيران من جنوب الجزيرة بعد تمكنها من العراق والشام! وكانت الحرب في اليمن استنزافاً كبيراً لقوة إيران وشيعتها.

– قامت الدبلوماسية السعودية بعملها في محاولة كسب تأييد العالم، وتجريد ماكنة الشر الإيرانية من حلفائها. في الصين وروسيا عن طريق المشاريع الاقتصادية والتنومية والعسكرية المشتركة، وكان لأرصدتها المليارية في البنوك الأمريكية دورها في تبطئة دواليب سياسة أوباما المضادة.

– كان للمال والسياسة السعودية دورهما في تجريد إيران من حلفائها في المنطقة. السودان مثال واضح. وانقلب الأمر في هذا القطر من الضد إلى الضد. مصر مثال آخر أقل وضوحاً. وكانت العلاقة مع تركيا تمثل قمة من قمم السياسة السعودية.

– وجاءت الفرصة الكبيرة المواتية للإجهاز على نفوذ إيران بمجيء الحكومة الأمريكية الجديدة. وصارت السعودية مركز الثقل في المنطقة، وبدأت إرهاصات انحسار النفوذ الإيراني والشيعي بالظهور.

وهذا كله وغيره في صالح السنة.

هذا شيء مختصر جداً عن السياسة السعودية لا يحتمل المقال أكثر منه. وأطرح هنا السؤال التالي: لو تمكن الإخوان وداعش من المنطقة ماذا تتوقعون من نتائج كارثية؟ أهذا خير أم النتائج التي حصدتها السعودية لحد الآن، بصرف النظر عن التفاصيل؟ أي خذوا الأمور في إطار النظرة العمرية لا إطار النظرة المثالية.

10/5/2017

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى