مقالات الدكتور طه الدليمي

مظاهرات الشيعة في العراق .. من أين ؟ وإلى أين ؟

د . طه حامد الدليمي

بص

انطلاقاً من المسار الذي رسمته لنفسي: “استخلاص فكرة ثابتة من حدث متحرك”.. أكتب مقالي هذا عن مظاهرات الشيعة الأخيرة، وأفتتحه بملاحظة لافتة للنظر لم يشر إليها أحد حتى الآن.. غياب الرايات الطائفية وتسيد العلم العراقي الرسمي حشود المظاهرات! ما السبب؟ وما الدلالة؟ هل هو غياب الوجود السني المنافس من الساحة؟ أم صحوة شيعية وطنية؟ أم دليل على نظمية الحركة وأن هناك عقلاً مدبراً وراءها، يبغي شيئاً ما وراء هذه (الصحوة الوطنية) الطارئة؟ فمن هي الجهة صاحبة الامتياز في امتلاك هذا العقل؟

 

هرطقات وطنية

سيخرج (الوطنيون) – بل خرجوا – ليفسروا الحدث كما فعلوا مع ثورة العشرين الخائبة من قبل، على أنه انتفاضة وطنية قام بها الشيعة العرب ضد شيعة العجم. والحقيقة أنه لا وطنية ولا عروبة ولا صحوة. الشيعي شخصية مصابة برابوع طائفي مزمن حد النخاع: (العقدة والعقيدة والتقليد وموالاة إيران). ليتقدم الوطنيون ويعالجوا واحدة من هذه العُقد، وإلا فأبشروا جيل سني قادم بإذن الله سيضرب سور الحجْر على هذه السفاهة الخائبة.

 

شيء عن مجريات الحدث

1. بدأ الحدث قبل أسبوع باجتماع عشائر من البصرة (بنو مالك وبنو عامر والسواعد) أسفر عن تحالف بينهم، وأرسلوا إلى عشائر الـﮔرمة شمالي البصرة منتظرين جوابهم للبدء بالعصيان والخروج. وهذا يؤيد الرأي الذي يقول بأن إيران وراء الحدث؛ لأن هذه العشائر تتبع المالكي والحشد الماعشي بقيادة هادي العامري. وكذلك أرسلوا – كما يبدو – إلى بقية العشائر في عدة محافظات. ثم قطعوا الطرق الرئيسة ومنفذ الشلامچة الذي يربط البصرة بإيران. ثم بدأت التداعيات بالظهور. اقتحام مبنى محافظة البصرة والنجف وحرق المقار الحزبية والدوائر الرسمية ومطار النجف وبعض حقول النفط وإجلاء الموظفين الأجانب منها. وقُتل بعض المتظاهرين والقوات الأمنية والعدد في ازدياد، مع مئات الجرحى. ويقال إن هذه العشائر طالبت الحكومة بتنفيذ أحكام الإعدام بحق المحكومين السنة في سجن الحوت بالناصرية! وإن الأمريكان أجلوهم إلى سجن أبو غريب! عشائر أخرى مناهضة لتوجه المالكي والعامري، بعضها يتبع الخط الصدري، خرجت مهاجمة مقار خصومها من الأحزاب والمليشيات. ذهب العبادي إلى البصرة ورجع من خائباً من هناك، ولم يتمكن من مخاطبة المتظاهرين الذين كانوا يهتفون حول البناية التي اجتمع فيها بأهل الشأن: “اخرج يا جبان”! وكذلك رجع الوفد الصدري الذي أرسله مقتدى من بغداد.

2. سبق ذلك بأيام قطع إيران الكهرباء عن البصرة وديالى بسبب تأخر دفع الأجور، ولما أراد العراق تسديدها اشترطت أمريكا أن يكون الدفع بالدينار العراقي. ورفضت إيران واستمر القطع. هذا هو الأمر بحسب الظاهر. فتهيأ الجو لخروج الناس من بيوتهم التي ما عادت تطاق وسط لهب الحر وخنق الرطوبة.

3. سحبت الحكومة قوات من الجيش والحشد الشيعي من كركوك والموصل وغيره من المدن السنية لتلافي تدهور الوضع أكثر في الجنوب. وذلك مقدمة جيدة لصالح كردستان والسنة العرب. وقطعت أمس شبكة النت، والتسريبات أن المخابرات الإيرانية وراء القطع وهو يشير إلى أن الأمور ربما خرجت عن خطة إيران أو سيطرة الحكومة. لكن الخط عاد صباح اليوم، وتسربت أخبار تفيد أن الأمريكان هم وراء عودته. والأحداث مرشحة لأن تتداعى وتتطور وتخرج عن السيطرة.

4. ترافق الوضع مع هروب أعداد كبيرة من النواب والوزراء إلى الخارج.

 

من أين ؟

1. عند النظر إلى ظاهر الحدث يبرز الوضع الخدمي المتردي الذي لا يطاق كسبب أساسي دفع الناس إلى الخروج ضد الحكومة؛ إذ لم تُجدِ كل السبل في لفت نظر المسؤول المتخم بالفساد على حساب أهله، وإعادته إلى وعيه.

2. النظر الأعمق يرجح أن إيران لها يد فيما يجري. سياق الأحداث محلياً وإقليمياً وعالمياً يشير إلى ذلك بقوة:

أ. الفوضى هي المادة الدسمة التي تفضلها شهية الشخصية الفارسية على مر التاريخ للتوسع على حساب جيرانها، وإشغال الداخل الإيراني عن النظر في وضعه.

ب. الهروب إلى الأمام إزاء الحصار النفطي الذي سيبدأ تنفيذه قريباً؛ فأن يضاف إلى ذلك وقف تصدير النفط العراقي بتعطيل حقوله عن عملها يمكن أن ينتج عنه رفع أسعار النفط بما لا تحتمله الأسواق العالمية، وقد يؤدي ذلك إلى كسر الحصار. وأفاد خبر نشرته (وكالة شط العرب البصرية) أن شركة (لوك) النفطية الروسية قبضت على عناصر استخبارية إيرانية في مقر الشركة غرب (القرنة) تقوم بسرقة محتويات المقر، وتخريب أجهزة دقيقة لإنتاج واستثمار النفط. وأفادت أخبار أخرى أن العناصر الإيرانية هي التي تتواجد في مقرات الشركات بعد إجلاء موظفيها. وفي مقطع مرئي أمسك متظاهرون في النجف شخصين إيرانيين يقومان بإحراق مبانٍ حكومية.

ت. من الهروب إلى الأمام تهديد دول الخليج العربي وأولها الكويت، التي تخشى أن يعاد عليها حدث 1990. ولا أرى هذا التهديد سهل التنفيذ في وجود قوات التحالف العربي، والجغرافيا الصحراوية، والوضع الدولي. والقياس على ما فعل الرئيس صدام بعيد؛ فالعراق كان دولة واحدة بآمر واحد وجيش واحد، وكان أقوى بكثير مما هو عليه اليوم في ظل بيت شيعي ممزق، واستحالة تحرك الجيش الرسمي؛ فليس سوى المليشيات وهي متناحرة وغير قادرة على حركة بهذا الحجم، والدولة منهكة بكل المقاييس، وأولها المقياس الاقتصادي.

الوقاحة إحدى العُقد العشرين في الشخصية الفارسية، والوقح إذا قصرت يده طال لسانه. ولو فعلتها إيران وارتكبت حماقة صدام ليحلن بها ما لم يكن يحل بالعراق من قبل!

 

إلى أين ؟

لنضع هذه العوامل في بالنا، علماً أنها ليست العوامل الوحيدة، ثم نرى:

1. الشيعة أمة يجمعها اللطم وتفرقها العصا. والشخصية الشيعية قُطعانية السلوك، تحركها غريزة القطيع، وتسير على هدى نعيق معمم يقودها إلى حتفها بظلفها!

2. هناك قرف من المعممين يشيع بين شباب الشيعة. لكن من الضروري أن نعلم أنه ما لم يتمم ذلك بمشروع تغييري ينقذ هذا الجيل الضائع، فستمر كظاهرة عابرة لا أثر لها؛ فالتشيع دين مزروع في تربة اجتماعية عقدوية معقدة بصورة فوق ما يتوهم الوطنيون.

3. البيت الشيعي ممزق إلى أقطاب متناحرة. والجيش تحت سيطرة الأمريكان وضغط القانون الدولي، وهو في النهاية ضد العشائر، والمليشيات ضد الجيش، وهي فيما بينها متناحرة، وبعضها تحت طائلة قانون الإرهاب. والعشائر ضد الاثنين.

4. إيران تريد الفوضى. وقد تنفذ في سبيل ذلك عملية قتل بحق أحد البارزين كالصدر أو المالكي أو العامري. وقد تحتاج التهدئة كحركة طارئة، لكن الزمن على كل الاحتمالات ما عاد في صالحها، وهذا يفقدها زمام السيطرة مع الزمن.. القريب وليس البعيد بإذن الله تعالى.

5. إيران تريد الفوضى مقدمة لوضع آخر يُسفر عن عدة متغيرات في صالحها. مثلاً السيطرة على البصرة بواسطة المليشيات التابعة لها وعناصر الحرس الثوري والمخابرات الإيرانية التي تفيد أخبار قوية بأن مئات منهم بدأوا بالتدفق إلى هذه المدينة المنكوبة. وربما تتمكن بذلك من تصدير نفطها على أنه نفط عراقي تفلتاً من رعب الحصار الداهم. والذي عبّر عنه وزير الخارجية الأمريكي بقوله مخاطباً إيران قبل يومين: “بعد الرابع من نوفمبر اشربوا نفطكم”! والأمور أعقد من ذلك، وإنما نجتهد ونتوقع حسب علمنا وقدرتنا.

5. أمريكا عنصر أساسي في المعادلة. وهي تريد:

أ. القضاء على مليشيات ماعش. والفوضى هنا في صالحها أيضاً.

ب. إنهاء نفوذ إيران في العراق.

 

وهنا نضع أمامكم الاحتمالات التالية:

1. هل ستؤول الأمور إلى مزيد من الفوضى حتى تصل إلى حرب شيعية شيعية؟ وارد. وقد يفلت الوضع عن السيطرة تحت نظر الأمريكان، وذاك ما يريدونه إلى حين؛ فهذا ينهك المليشيات، ويمنح الحكومة التابعة الحجة القانونية للإجهاز على ما تبقى منها. كما يجعل الشيعة في وضع مزرٍ يرضون فيه بأي حل ينقذهم من الجحيم الذي جنوه على أنفسهم.

2. هل ستُحرك الحكومة الجيش والشرطة والأمن، وتسيطر على الوضع؟ وارد أيضاً. سيما أن إيران – كما يُستشف من بعض الإشارات – بدأت تشعر بأن الأمور أعقد مما تصورتها؛ فالقوى الشيعية منقسمة: معها وضدها، وحقول النفط صارت في منأى عن التخريب. وإيقاف تصدير نفط البصرة يمكن تعويضه بنفط كركوك ومصادر أخرى من خارج العراق مثل ليبيا. والفوضى قد تتحول لصالح الأمريكان.

3. في الحالتين سيدفع الأمريكان باتجاه تشكيل حكومة طوارئ أو تصريف أعمال، قد تستمر إلى سنة أو أكثر. ثم يؤول الأمر إلى انتخابات بإشراف الأمريكان تكشف الحجم الحقيقي للشيعة، ويكون للسنة نصيب أكبر فيها.

4. في حال عدم تشكيل حكومة طوارئ قد تتشكل حكومة شيعية ضعيفة، وستؤول الأمور إلى ما تؤول إليه في الفقرة السابقة.

5- الأهم من هذا كله أن مسار الأحداث يتجه إلى ما يلي:

أ. انكماش نفوذ إيران وانكفائه إلى الداخل. ولن تنفعها ألاعيبها كلها مثل محاولة إعادة داعش إلى الموصل وكركوك والأنبار، أو مناكفات حماس والجهاد الإسلامي في غزة لإشغال إسرائيل عن ضرب مليشيات إيران في سوريا. ولا الحوثيون في اليمن أو حزب اللات في لبنان. هؤلاء غربت شمسهم بغروب شمس إيران، هم وجميع عملائها في المنطقة.

ب. انتهاء عهد المليشيات والسيطرة الشيعية على الشارع وزوال حالة الفوضى الأمنية.

جـ. ضعف النفوذ الشيعي في العراق والمنطقة بكل تفرعاته.

د. نشوء دولة عراقية اتحادية فدرالية، طبقاً للدستور.

والزمن كفيل بكشف ستار الغيب عما ستسفر عنه الأحداث في قابل الأيام (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21).

16 تموز 2018

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى