مقالات

أضواء على التجربة السياسية للدولة السعودية الثالثة

استطاع الفكر السني في العراق أن يتحرر من الدوران في فلك الفكر القومي والإسلامي كليهما، ليختط له فلكاً جديداً أصيلاً يبدأ من سماء الوحي وينتهي في أرض الواقع، بعيداً عن المؤثرات السلبية للتراكمات التاريخية.
وهذا هو الإسلام في شكله الواقعي الرباني الذي يتوسط بين الجمود الديني والانفلات العلماني.
ظاهرة فريدة تميزت بها الدولة السعودية الثالثة (الحالية) أود أن أضعها بين يدي معتنقي هذا الفكر، لها تعلق لا ينفصم بالأساس الذي يقوم عليه (المشروع السني) ألا وهو الجسم المدني ودوره في الحفاظ على الصبغة الربانية وسط قوى عالمية حريصة على سلبها منه.
تتجلى هذه الظاهرة عند النظر إلى واقع الأقطار العربية بعد زوال الدولة العثمانية وقيام الدول الوطنية التي تبنت الفكر العلماني مكتفية بوضع فقرة في الدستور تنص على أن “الإسلام دين الدولة الرسمي”.. لكن دولة واحدة، هي الدولة السعودية، تمكنت من الإعلان بأنها دولة قائمة على شريعة الإسلام وطبقت ذلك على أرض الواقع، مع التسليم بوقوع مخالفات لم تسلم من مثلها الدولة الإسلامية في أزهى عهودها على مدى (1300) عام.
ونسأل: كيف سمحت بريطانيا وغيرها من الدول العظمى بأن تخرق الدولة السعودية الإجماع العالمي هذا الخرق غير المسموح به على صعيد العالم أجمع؟

سببان جوهريان أراهما يفسران هذا التباين:

1. نجاح الدولة السعودية في تحويل الشريعة من دائرة الفكرة إلى فضاء الثقافة
كان التحالف الذي تم بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود في مدينة (الدرعية) والانطلاق منها لتأسيس الدولة السعودية الأولى.. فاتحة عهد جديد في ترسيخ الإيمان بشريعة الإسلام والخضوع لها. ثم إن مرور أكثر من (150) سنة حتى قيام الدولة الثالثة (1744-1902) زاد هذا الرسوخ فتحول من مجرد فكرة وإيمان إلى ثقافة شعبية وصلت عند الجمهور السعودي حد البديهيات التي لا تقبل البدل ولا الجدل.

في مقابل هذا لا تجد الزمن قد زاد الأحزاب الإسلامية إلا تقهقراً عن أصل الفكرة، فضلاً عن الارتقاء بها إلى بناء الثقافة. لقد تقهقرت الفكرة من درجة الحاكمية إلى دركة الديمقراطية، ومن مفهوم (الشريعة) إلى مفهوم (القيم) الإسلامية، وأثبتوا ذلك في النظام الأساسي للجماعة، دون أن تجد من ينكر عليهم من داخل صفوفهم هذا التناقض المريع؛ لأن الفكرة لم تنبت داخل جماهير الجماعة نباتاً يؤهلها لأن تتحول إلى ثقافة شعبية راسخة.

2. النجاح في بناء المجتمع المدني المنظم
تعرضت الدولة السعودية للسقوط مرتين، وفي كل مرة يعيد السعوديون الكرة فيرجعون دولتهم من جديد. بين زوال الدولة الثانية (1891) وتأسيس الدولة الثالثة (1902) عشر سنوات تفرق فيها قادة الدعوة وفقهاؤها بين الواحات، وكونوا حول كل واحة مجتمعاً مصغراً أطلقوا عليه اسم (هجرة). كانت هذه (الهِجَر) بمثابة وحدات بنائية اجتماعية متفاهمة فيما بينها، تسودها عقيدة واحدة، وترجع في شؤون حياتها اليومية إلى شريعة واحدة بقيادة شيوخ دين من فقهاء ودعاة ومفتين وقضاة. وتشيع فيها حركة علمية ودعوية نشطة. وبينها تكافل اجتماعي ونشاط اقتصادي قائم على الشريعة.
إن هذا هو أساس المجتمع المدني المنظم الذي ندعو إلى تكوينه في مشروعنا السني قبل أي نشاط آخر. والذي لم يكن الأمير عبد العزيز بن سعود القادم من الكويت لاسترجاع الدولة في حاجة معه إلى جهد كبير لينطلق منه كي يؤسس دولته ويوسع أرجاءها فتشهد الجزيرة العربية ميلاد دولة كبيرة لم تشهدها منذ عدة قرون.
إن هذا المجتمع المدني المنظم ذا الإرث الرباني الضارب في جذوره في أعماق ذلك المجتمع، هو الذي مكن ابن سعود من أن يعلن دون مواربة عن أن دولته قائمة على الشريعة والشريعة وحدها. ولم تستطع بريطانيا ولا غيرها منعه من ذلك كما منعت سواه.
لماذا؟
لأنها تدرك أن وجود حكومة لا تتوافق مع عقيدة وثقافة المجتمع ضرب من المستحيل. فاحتفظت لنفسها بجهد محاولة مكتوب عليها الفشل مسبقاً.
هذا ما فشلت في بلوغه الأحزاب الإسلامية جميعها؛ من حيث أنها فشلت في تأسيس نواة مجتمع مدني منظم يتمتع بحصانة فكرية وثقافية وقوة عسكرية تستعصي على محاولة العلمنة والتغريب؛ لهذا حين تستلم تلك الأحزاب أول ما تستلم السلطة أو تشارك فيها لا تجد أمامها سبيلاً سوى البدء بإجراءات الانسحاب من ربقة دعاواها السابقة، مع محاولة ردم الفجوة الفاضحة بين الفكرة التي قامت عليها الدعوى وبين الواقع الذي آلت إليه الجماعة بعمليات ترقيع لم يزدها الزمن إلا حاجة مستمرة إلى ترقيع جديد. مع زيادة قوة الصوت الإعلامي بدعوى الإسلامية والنكير المشدد على دعاة العلمانية. وهي مفارقة تضحكني كثيراً؛ لأنها تذكرني بحالة خائف مرعوب ساقه قدره إلى صحراء مظلمة فهو يرفع صوته عالياً بأي كلام في محاولة ميؤوسة منه لتبديد الخوف وإحلال الشعور بالأمان.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى