مقالات

الضعف الشديد لسند حديث( ثم تكون خلافة على منهاج النبوة )

في المقال السابق أثبتنا أن حديث (الخلافة) ليس في متنه أي دلالة على ذم الملك ومدح الخلافة، هكذا مجردين من صفة الذم والمدح. بل في النص مدح للملك الراشد وذم للخلافة الفاسدة، والعكس صحيح. ووعدناكم بأن نتبع ذلك بمقال آخر نكشف فيه اللثام عن ضعف الحديث من حيث السند. وهذا أوان تنفيذ وعدنا.
يعاني سند هذه الرواية من عدة علل أهمها علتان تتعلقان براويين من رواتها: الأول: حبيب بن سالم، والثاني داود بن إبراهيم الواسطي. سأتناول الكلام عنهما باختصار شديد:

أولاً: حبيب بن سالم:
1. قال البخاري (التاريخ الكبير، 2/318): “فيه نظر”. قال الذهبي (سير أعلام النبلاء: 12/441): قال البخاري: “إذا قلت: فلان في حديثه نظر فهو متهم واهٍ”.
2. وذكره الذهبي في ديوان (الضعفاء والمتروكين: 1/71) متابعاً البخاري في قوله.
3. عده العقيلي (الضعفاء الكبير:1/263) في الضعفاء تبعاً للبخاري، وهو تلميذه،.
4. قال ابن عدي الجرجاني (ميزان الاعتدال:1/455): في أسانيده اضطراب.
5. وثقه أبو حاتم وأبو داود، وذكره ابن حبان في الثقات (تهذيب التهذيب:2/184).
فتوثيق حبيب بمثل ما سبق لا يصمد أمام توهين مجرحيه وعلى رأسهم البخاري. لاسيما في موضوع سياسي خطير تبنى عليه مصالح ومفاسد تتعدى الفرد إلى المجتمع والدولة.

ثانياً: داود بن إبراهيم الواسطي
1. مجهول، وقد تفرد بالرواية ولا راوي لها سواه.
أما أنه مجهول فقد قال ذلك عنه كبار علماء الحديث مثل الأزدي، والذهبي لكن بلفظ (لا يعرف). ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في لسان الميزان:2/415). وواقع حاله يشهد لذلك؛ فقد بحثت كثيراً فلم أجد له ترجمة في كتب الرجال تدل على معرفة عينه، ونطمئن بها إلى توثيق الطيالسي له سوى أنه “من البصرة”.. فمن هو داود بن إبراهيم: أين ومتى ولد؟ ومتى توفي؟ وأين عاش؟ ما سيرته؟ ما أصله؟ ماذا كان يعمل؟ كل هذا لا جواب له. فهو مجهول العين كما قال الأزدي، أو هو لا يعرف كما عبّر الذهبي. فهو من قبيل “من سمي ولا تعرف عينه”.
2. لم يوثقه غير سليمان الطيالسي. وهذا التوثيق – حسب قواعد الحديث – لا تقوم به حجة؛ فقد نصص ابن كثير (اختصار علوم الحديث:1/96) على أن رواية الثقة عن شيخ، وإن كان لا يروي إلا عن ثقة، ولو كان ممن ينص على عدالة شيوخه. ولو قال: “حدثني الثقة”، لا يكون ذلك توثيقاً له على الصحيح، لأنه قد يكون ثقة عنده، لا عند غيره. وقال: هذا ممن لا يقبل روايته أحد علمناه.
3. هذا على فرض أن داود الواسطي غير القاضي القزويني.
وإلا فهناك قرائن قوية تدل على أن داود بن إبراهيم هذا هو القاضي الكذاب بقزوين (ت 214هـ)، عينه البرامكة على عهد الرشيد والأمين والمأمون. وهو المعاصر للطيالسي (ت 203هـ) ولم يدرك حبيب بن سالم (ت 101- 110هـ).
قال ذلك جملة من كبار أئمة الحديث:
أ. الحافظ جمال الدين المزي (تهذيب الكمال، 30/201) قال: داود بن إبراهيم العقيلي الواسطي قاضي قزوين.
ب. أبو الشيخ الأصبهاني (طبقات المحدثين بأصبهان والواردين عليها، 3/366) قال: داود بن إبراهيم الواسطي بقزوين.
ت. شمس الدين السخاوي (التحفة اللطيفة: 1/126) قال: داود بن إبراهيم العقيلي القاضي بقزوين.
ث. أبو القاسم الرافعي القزويني (التدوين في أخبار قزوين 3/1-2) قال: داود بن إبراهيم العقيلي أَبو سليمان الواسطي كان قاضياً بقزوين).
فهؤلاء عدة علماء يجعلون داود بن إبراهيم الواسطي الذي وثقه الطيالسي، وداود بن إبراهيم العقيلي الكذاب، وداود بن إبراهيم القاضي القزويني الكذاب واحداً.
وبهذا يتبين ضعف مستند الطيالسي في توثيقه داود بن إبراهيم.

ضعف مستند تصحيح العراقي والألباني والإرناؤوط لرواية (الخلافة)
لم أجد غير الشيخ الألباني والشيخ شعيب الإرناؤوط حسّنا رواية حذيفة في الخلافة. وذكر الألباني أن الحافظ العراقي صححه.
1. أما الحافظ العراقي فصحح الرواية اعتماداً على توثيق الطيالسي وابن حبان لداود بن إبراهيم الواسطي (انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني: 1/34) وقد مر بنا آنفاً عدم اعتبار هذا التوثيق والأسباب الكاشفة عن ذلك.
2. وأما الألباني (السلسلة الصحيحة:1/35،34) فاعتمد في توثيق داود بن إبراهيم على توثيق الطيالسي. وقال عن حبيب بن سالم: “لكن حبيباً هذا قال البخاري: فيه نظر. وقال ابن عدي: ليس في متون أحاديثه حديث منكر، بل قد اضطرب في أسانيد ما يروي عنه، إلا أن أبا حاتم وأبا داود وابن حبان وثقوه، فحديثه حسن على أقل الأحوال إن شاء الله تعالى، وقد قال فيه الحافظ: لا بأس به”.
وما بمثل هذا يصح سند حديث، فضلاً عن حديث خطير إلى هذه الدرجة يتناول أصول السياسة، ويتحكم في شكل نظام الحكم، ناسخاً وناقضاً كل ما جاء في القرآن الكريم من تقريرات تتعلق بذلك!
هذا والشيخ الألباني معروف بتساهله في تحسين الأحاديث. نبه على ذلك جمع من العلماء، منهم الشيخ محمد بن عثيمين، والشيخ مصطفى العدوي، وتلميذه الشيخ أبو إسحاق الحويني، وغيرهم. وللشيخ الدكتور سعد بن عبد الله آل حميد قول يجمع بين أقوالهم إذ يقول عن الشيخ الألباني (فتاوى حديثية: 1/111): “إذا حكم على حديث بالحُسن؛ فهذا الذي هو محل نظر؛ فهو يتساهل في جمع طريق ضعيفة، مع طريق ضعيفة، وهكذا يجمع بينهما، ويحكم على الحديث “بالحسن لغيره” ـ مع العلم بأن بعض تلك الطرق قد تكون مناكير، أو مما تفرد به بعض الرواة تفردًا منكرًا عند العلماء، والشيخ لا يُبالي بهذا”. قلت: وتحسينه لحديث (الخلافة على منهاج النبوة) مثال واضح على ما قيل آنفاً؛ فهو لم يتوقف عن آفة الحديث داود بن إبراهيم، والتردد واضح في تعابيره عن تحسين حديث حبيب: “فحديثه حسن على أقل الأحوال إن شاء الله تعالى، وقد قال فيه الحافظ: لا بأس به”.
3. وما قلناه عن تحسين الشيخ الألباني للرواية يقال عن الشيخ شعيب.

الخلاصة
هذا هو حال حديث (الخلافة على منهاج النبوة) من حيث السند. إنه لحديث موهم خطير، تجرأت به الأحزاب الإسلامية ومعها الشيعة والجهلة على الطعن في عامة تاريخنا وعظمائنا. واستحل به الثوريون منهم ومن فصائل متطرفة تتلبس لبوس الجهاد دماء المسلمين والخروج على الأنظمة والأوطان المستقرة حتى تلك التي تعلن أنها تحكم منها بشريعة الإسلام؛ متذرعين بأن هذه الأنظمة ملكية، والملكية نظام عضوض وجبري، ومنهم من تجرأ فزاد فوصفه بالردة والفجور؛ يجب إزالته بأي سبيل ومهما كان الثمن!
هذه المفاهيم الخطيرة كلها تمرر من تحت سارية هذا الحديث الباطل سنداً، وغير الدال متناً. وإني لتعتريني الغرابة كل الغرابة من اشتهار هذا العبث واستسلام العلماء له وتركهم التنقيب عنه وعن جذوره ومستنداته، وقد وصلت السيوف إلى حلاقيم الملايين بسببه، ودمر العراق والشام واليمن، والخطر يدور حول المملكة العربية السعودية للقضاء على آخر معاقل أهل السنة.
إني أدعو المؤسسات الإعلامية والعلمية إلى فتح المجال أمامنا لتحذير الجماهير من هذا الحديث الخطير، وبيان بطلان سنده واختلال مفاهيمه؛ فإن الفتنة من ههنا.. إن الفتنة من ههنا.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى