مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

الإسلاميون وضياع البوصلة

د. طه حامد الدليمي

كان ذلك قبل عشر سنين خلت!

وأنا في الطائرة متوجهاً إلى إسطنبول رأيت في يد صاحبي كتاباً في (الإدارة) لم أعد أذكر عنوانه. استأذنته وتناولته منه. وبينما أنا أقلب أوراقه وقعت عيني على موضوع يتحدث عن الخطأ الكبير الذي يقع فيه معظم الناس عندما يستهلكون زمناً طويلاً في تفاصيل عمل كثير، قد يكون منتجاً، لكنه ليس على سكة الهدف.

حدد هدفك وانصب بوصلتك باتجاهه ثم اضبط مسارك طبقاً لما يرمي إليه ذلك المثلث الصغير في طرف المؤشر. واهتم بالأجود من الأعمال التي في داخل المسار، وأجّل الجيد حتى يحين وقته، أو اتركه كلياً لصالح الأجود، وتخلص من كل التفاصيل التي خارج المسار. بهذا يقل جهدك، ويزدهر عملك، وتصبح لديك فسحة من الراحة تستعيد بها نشاطك لقادم أفضل. واختصر الكتاب ما أراد بكلمتين: البوصلة وليس الساعة.

قلت: هذه السطور اختصرت عليّ الكثير! وأضفت: إذن ضابط الساعة هو البوصلة؛ لأنها هي التي تحدد الاتجاه الصحيح. الزمن ليس هو المهم إنما صحة الاتجاه. والحركة ما لم تنضبط بمسارها ليست سوى مراوحة فوق المربع نفسه. وتذكرت قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) (الأنعام:57). وهذا ما عليه الحركات التي ظهرت منذ مئة عام، إسلاميها وعلمانيها. ومنها الأحزاب الإسلامية، التي ظهرت بعد زوال الدولة العثمانية.

اشتهر الإسلاميون بعدة مفاهيم ومصطلحات وتطبيقات شكلت استراتيجية عمل كان لبعضها نتائج كارثية، عندما تقع يلقون بمسؤوليتها على غيرهم بدل أن يراجعوا حساباتهم، ويبتعدوا عن مواجهة النقد بروح جمعية تشنجية. في النهاية يخسرون غيرهم ونفسهم.

الحاكمية، والخلافة والجهاد، والخصومة مع العلمانيين وأولهم الحكام، وتبني منهجية التقريب مع الشيعة، وعدم بلدنة القضية، أي عولمة الفكرة المركزية للجماعة وتعميمها على الجميع، والتركيز على فلسطين كقضية أولى بالنسبة لجميع البلدان. هذه المفاهيم والمصطلحات والتطبيقات أهم ما تميزت به الإسلاميون كأحزاب.

 

التحدي الأمني بين المشرق العربي والمغرب العربي

مش العالم العربي من حيث التحديات ينقسم إلى عالمين: مشرق (آسيوي) ومغرب (إفريقي). وهذان العالمان مختلفان من نواح جوهرية يجب إدراكها وبناء العلاقات على أساسها. ومن ذلك اختلافهما في أولويات التحدي الأمني. فالتحدي الأمني القومي لدول المشرق العربي شرقي فارسي بالدرجة الأولى، وتحدي الثاني غربي صليبي بدرجة مقاربة. وإن كانا في النهاية يشتركان في تحمل التحديين كل بحسبه.

إن عدم إدراك هذه الحقيقة يمثل خللاً فاضحاً كارثياً في اتجاه البوصلة.

 

مفهوم ( الإسلامية ) كهوية ، وعلاقته بضياع البوصلة

اتخاذ الإسلاميين شعار (الإسلامية) في إطاره الحزبي هوية لهم، يختصر كل المفاهيم والمصطلحات والتطبيقات السابقة والتداعيات التي ترتبت عليها، ويلخص العلة الكامنة وراء الكارثة، بالمشاركة مع التوجهات الفئوية الأخرى. ليست المشكلة في المفهوم من حيث الأصل، إنما في التكييف النظري والتطبيق العملي له والتداعيات التي ترتبت عليه.

بناء على هذه الهوية المضطربة حصل ما يلي:

– الخلط بين مفهوم (الإسلام) و(الإسلامية)، والتماهي الذهني بين الإسلام كدين وبين الإسلامية كنسبة إلى ذلك الدين. وهذا خلل كبير من حيث وجود فرق جوهري بين الاسم الأصل والاسم المنسوب إليه كالفرق بين مفهوم (العراقي) و(العراق). كذلك العلاقة بين الإسلامي والإسلام. ويزداد الأمر تعقيداً حين يصل الأمر إلى تقديس كل ما هو (إسلامي). ضع في علمك أن هذا اللفظ لم يرد به نص شرعي البتة.

– من هنا ولد مفهوم (الإسلامية) كهوية، اتخذها (الإسلاميون) منطلقاً لهم. وبهذا ضاعت البوصلة كلياً. الهوية الصائبة للمشرق العربي هي (السنية) بالدرجة الأولى. لأن الهوية:

1. تتمحور حول موضوع التحدي

2. وتتناظر مع هوية المتحدي

والتحدي الذي نواجهه – نحن شعوب المشرق العربي والإسلامي – فارسي مجوسي شيعي. والهوية التي تناظر هذه المفاهيم الثلاثة ويمكن التعبير عنها بكلمة هي (السنية).

– الهوية الإسلامية جعلت الإسلاميين يتخذون من العلمانيين، وأولهم الحكام، الخصم أو العدو الأول لهم. فتورطوا في معارك واغتيالات وخروجات على الحكام خصوصاً، وخصومات مع بقية العلمانيين عموماً.. استنزفت جهوداً جبارة للأمة، استثمرت لصالح الشرق الشعوبي والغرب الصليبي. وهذا ناتج من نواتج ضياع البوصلة؛ فنحن أهل المشرق العربي عدونا الأول إيران وشيعتها، وليس الحكام أو العلمانيين.

– تبني (الإسلامية) كهوية أدى إلى عولمة الأفكار والقضايا، وتبني مبدأ الأممية دون إعطاء واقع القطرية الماثل أمامنا حقه من الرعاية. وهذا أدى إلى نتائج خطيرة أهمها:

1. مفهوم (الإسلامية) بإطاره الخاص الذي تشكل داخل المطبخ الفكري للإسلاميين استلزم اعتماد التقريب مع الشيعة باعتبارهم مسلمين كلازم من لوازم المفهوم.

2. اعتبار فلسطين هي القضية المركزية (وهذا المفهوم الخاطئ مشترك بين الجميع: إسلايين وعلمانيين.

 

النتائج الخطيرة للتقريب مع الشيعة واتخاذ فلسطين قضية مركزية

1. صرف انتباه المشرق العربي – الذي يمثل في ميزان القوى ثلاثة أرباع الأمة: عربيةً كانت أم إسلامية – عن خطورة العدو الشرقي. وهو الهدف الخطير الذي تواطأ عليه الشرق الصفوي مع الغرب الصليبي، وذلك منذ خمسة قرون.

2. جعل العالم العربي بجناحيه يحرق معظم جهوده العسكرية والسياسية والاقتصادية في قضية تعتبر – نسبة إلى الواقع الدولي والتحديات المختلفة لأقطار الأمة المفرقة – قضية مؤجلة، وعلى هامش المسار الصحيح للمشرق العربي، وليست في وسط جادته.

(السنية) هي البوصلة. وهي الهوية الصائبة للمشرق العربي. وهي قضيته المركزية؛ ما دام التحدي الأول له هو الفارسية والمجوسية متبرقعة بالشيعية.

وبـ(السنية): هويةً وقضية تتوحد جهود المشرق، وعليها يتم التنسيق مع المغرب لمعالجة القضايا المشتركة أممياً، ويتوفر الجهده للاهتمام بالقضايا الخاصة أو المركزية قطرياً. والصراع في المشرق العربي بكل أشكاله (سوى الشكل الفكري) مع العلمانيين بجميع أطيافهم، واتخاذ ذلك مرتكزاً وأساساً للحركة.. بعثرة للجهد، وتشتيت للقوى، وضياع للبوصلة اللازمة لتحديد الاتجاه نحو الهدف السليم.

 

 

اظهر المزيد

‫3 تعليقات

  1. كان أول كتاب جعل ابصارنا إلى البوصلة كتاب لا بد من لعن الظلام للمجدد الدكتور طه حامد الدليمي فهمنا به معنى العدو الشرقي والغربي وفهمنا به أن العقد المتاصلة أصعب من العقيدة المنحرفة ذاتها وفهمنا أن التغيير الجمعي أصل قراني يتقدم على التغيير الفردي فجزاك الله خيرا كل اهل المشروع السني عيال لما جددت وابدعت في تحديد البوصلة في مسار الحركة الإسلامية

  2. الاسلاميون أضاعوا البوصلة، وضاعوا وضيعوا من خلفهم وما زالوا تائهين.
    وعلى أهل السنة أن يستدركوا ما فاتهم بتصحيح المفاهيم قبل العمل الذي لن يوصلهم لشيء بحجة الوقت، فتحديد الهدف ونصب البوصلة باتجاهه وضبط المسار هو الأولى والمطلوب، لأن الزمن ليس هو المهم؛ إنما صحة الاتجاه.

  3. بالفعل الاسلاميون بوصلتهم معطوبة و مؤشر اهتمامهم خارج الرمان و المكان ..
    و ليتهم عندما رأوا نتائج عملهم الكارثي عادوا الى صوابهم و سمعوا للناصحين .. بل هم في هذا كالذي اخذته العزة بالاثم !!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى