مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

أيتها الموصل الحزينة ..! لقد أعلنت الإضراب عن الجراح

د. طه حامد الدليمي

رغم وقع المأساة، ومشهد الألم الذي كنت أنظر إليه من طرْف خفي. لم تجرؤ عيني على متابعته حتى النهاية. وكيف لي بذلك وأنا أشهد أفواجاً من النساء والشباب والأطفال يجري بهم الموج الجارف إلى حتوفهم.. ما زالوا أمام عيني أحياء. لا أيتها العين، أتوسل إليك؛ اتركيهم في مخيلتي أحياء، دعيهم يعيشون في خاطري إلى الأبد.. رغم ذلك الوقع المؤسي، والمشهد المؤلم لم يكن في بالي أن أكتب شيئاً عما جرى. لقد أعلنت الإضراب عن الوقوف على الأطلال واستنطاق حروف الألم منذ زمن ليس بالقريب.

كان موضوعاً آخر كلياً ذلك الذي شرعت في إخراجه إليكم. زورت في نفسي عنوانه، وبينما أنا أهِمُّ برسم أولى كلماته نظرت إلى الأفق أستشف صوره لأخرج – كما تعودت -بلوحة من حرف وصورة.. إذا بـ(الموصل) تسد عليّ رحبه الوسيع، تنظر إليّ بعينين دامعتين، وشفتين متربتين عاتبتين، اجتمعت في حروفها الصامتة كل ما في قاموس العربية من مفردات الحزن والعتاب والعذاب:

– أين أنت مني؟

– وتسألينني؟ أنا؟

أنا الذي ملأت المدى صوتَ نذير أن يصل إصبع قذىً إلى ظل طرف ثوبك! ثم، بعد سنين، رأيت نار المجوس تصل إلى طرف ذلك الثوب فصرخت قبل أن تلتهمه ألسنة اللهب. يومها حنوت عليك.. عذرتك وأنت تلعبين على شاطئ دجلة سعيدة لاهية.. كان قلبي يعلو مع كل قفزة لقدمك الصغيرة الحافية على ذلك الشاطئ الجميل، ثم يهبط مع هبوطها وأنت غافلة عما يدبر لك في الخفاء، فما عذرك وقد كبرتِ وقد وصلت النيران إلى جيب ثوبك، وأنت تنظرين ثم تتغافلين؟ ويحترق ثوبك وأنت ما زلت تلعبين صامتة عما أصابك، ومن أصابك! لم يبق إلا أن تحترقي أنت.. وها قد احترقت؛ فماذا تريدينني أفعل؟

– كما يفعل الكثيرون؟

– وماذا أغنى عنك جمعهم وما كانوا يفعلون؟ أنا أكرم من أن أعري صدري لألطم مع الذين خدعوك، أو أبكي مع الذين خذلوك. ليس هؤلاء إخوتك، لا والله، هؤلاء هم طلائع المعلنين عن قرب نهايتك حضروا ينتظرون النهاية ليقوموا بتشييع جنازتك خوفاً من ألسنة الناس، لا حذراً من ألسنة اللهب.

– وتتركني لمصيري حتى ولا كلمة وداع؟

– لقد فات وقت الكلام يا صغيرتي. لن يسمع الناس: لا القريب منهم ولا البعيد. ولن ينفعك الكلام. الوقت وقت العمل من أجل الخلاص، ولكن على هدى مشروع، وخطى مؤسسة. أما نحن فقد ملكنا البوصلة، ووضعنا الفكرة، وتبلور المشروع، وها قد وصلنا إلى أعتاب المؤسسة. مَا عِنْدِي مَا تستعجلين به (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ). من أراد أن يتقدم إليك بإسعاف فليفعل، نحن معه، لكن الطبيب يبحث عن العلة.. عن التشخيص.. ليبدأ العلاج. ومرضك قد أزمن؛ فعلاجك في حاجة إلى زمن طويل كي يؤتي أُكُلَه.

ولقد شخصت حالتك وحالة أخواتك منذ أكثر من ربع قرن. كل العائلة تعاني من مرض واحد. وحين أهبت بقومي ليدفعوا ثمن العلاج، أو يصبروا معي على طول مدته، استهزأوا بي وتَوَلَّوْا عني (وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ). واستغرقت الرحلة خمسة عشر عاماً لأتخذ قراري الغريب، يوم – لأجل عينيك – ودعت كل شيء، وأقبلت إليك. وكانت رحلة ما أطولها، لكن ما أجلَّها وما أجملها؛ لأن خطوتها الأولى كانت من عند ناصية المنبر، وسرير العيادة. وكان أن همت في الجنوب، وليس في بالي إلا آية وبيت شعر وفي زوادتي جديلة سرقتها منك وأنت غافية. وبعد أن لثمتها بصمت تسلقت نخلة كانت تسهر إلى جوارك، حييتها، ابتسمتْ إليّ، قطفت منها خوصة، شممتها ثم وضعتها إلى جانب جديلتك. ثم كان القرار الثاني يوم حملت زوادتي الملأى بذلك الكنز، لكن هذه المرة أضفت إليها بوصلة، وقد نصحني صديق أن أبعد الساعة عن مدى الرؤية إلا لحاجة. وكان بين القرارين خمسة عشر عاماً أيضاً.

**

آه..؛ صغيرتي لا تفقه عني كثيراً مما أقول، كعادتها في كل مرة.

وألجأتْني، فمحوت العنوان ومعه كل الحروف والصور التي كنت أحاولها. وكتبت، لا أدري لمن؟! وكتبت..

لقد قررت الإضراب عن الكلام في وقائع العاديات. ليس هذا من شأني الآن.

لقد تحدثت قبل ذلك بكثير.. ربما قبل أن ينطق أحد بكلمة. بل قبل أن تتشكل الكلمات في الصدور. وكررت الحديث وأطلقت صوت النذير والتحذير مرة بعد مرة، منذ أن لم يكن لي من وسيلة سوى أن أعلن احتجاجي على غيبوبة قومي عن واقعٍ، كل ما فيه يصرخ (أن اغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب). لكن قومي – ويحهم! – لا يحضرون إلا بعد مقتل العروس بأسبوع.. ثم يريدون منك أن تحضر إلى خيمة العزاء كما يحضرون، لتندب مع النادبين كما يندبون.

عذراً.. لست بهذه الدرجة من الهوان!

لقد أعلنت احتجاجي على هذا الوضع البائس منذ قرابة ربع قرن. وغادرت مفحص العيادة إلى رحاب المسجد. ثم قررت خوض المعركة في ميدانها الأعمق إلى الجنوب من بغداد بمئة كيل. وحين كان ما كان، وصار البلد في خبر كان. وحانت فرصة للحديث عبر أمواج الفضاء كان حبنا هو الوحيد الذي صرح باسم المحبوب رغم تقاليد العشيرة وخناجر الحقود وسهام الجهول. ومن يومها آليت على نفسي إلا أن يكون ذلك في مسار مشروع؛ كي لا أقع وقومي تحت طائلة: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف:3،2). ويوم قلت لقومي: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ)؟ أبوا إلا أن يقتلوا (العروس) بأيديهم: صمتاً عن القاتل وهم يرونه يتقدم إليها وهي تترنم بأغاريد الصباح آمنة مطمئنة فوق غصنها الرطيب على شاطئ دجلة الجميل، أو مشاركة له في فعله الأثيم.

**

القصة طويلة أيتها الحبيبة!

ليس أمامي إلا أن أبين عذري إليك عن الصمت عما يجري لك من محن تجاوزت صورها الخيال وحقيقتها الاحتمال. يوماً ما قبل أكثر من عشر سنين كتبت لأحد الإخوان: (إذا جل الحال عن القال كان الصمت أجلّ وأجمل). وبعدها بأربع سنين كتبت لأخ آخر أقول:

يا نبيلاً نذرَ الصمتَ لَهُ
صاحبٌ يُهديهِ بالصمتِ كلاما
قسماً يا ابنَ الفراتينِ فما
عميَ الناظرُ لكنْ يتعامىوإذا الخطبُ تناهى مَدُّهُ
تجدُ الحالَ عن القالِ تسامى

نعم.. قد لا تفهمينني اليوم؛ لأن المأساة أكبر من أن تترك لك مسكة من عقل يفكر، أو بقية من نفس تعذر. لكن لا أشك في أنك ستفهمينني بعد حين. وتدركين أن الطريق الوحيد للإنقاذ هو العمل في سياق مشروع. وأن هذا هو الذي جعلني أعض على شفتيّ حد أن قضمتهما. ألا ترين دماءهما تتجارى على صدري؟ ولكن مهما كان، ومهما يكن، لن ألطم مع الذين خدعوك عن ثوبك البريء، ولا الذين خذلوا حبك الطهور حتى إذا اطمأنوا إلى أنك صرت في الجب (جَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ)!

**

نعم أيها (اللا أدري من)! هي محن تجاوزت صورها الخيال وحقيقتها الاحتمال.

أمس.. هه أمس! لا.. بل نعم، نعم أمس.. على مرمى سنتين تماماً من اليوم، وفي يوم واحد بلغ عدد ضحايا الجانب الأيمن خمسمئة وزيادة.

– خمسمئة؟!

هذا غير الذين اندثروا تحت أنقاض المنازل!

الكل مشترك في ذبح الموصل، كما ذبحت مدن السنة من قبل وقومي يتفرجون، بل يعلنون وقوفهم مع الجهة الذابحة..! والحجة (داعش). كما ذبحونا من قبل، والحجة (صدام)!

والكل يذبح في أهل الموصل! ذبحتهم من قبل طائرات التحالف.. الجيش.. المليشيات.. داعش. وأصل البلاء كله هو الشيعة وإيران. جردوا أهل الموصل، كما جردوا البقية الباقية من أخواتها في بقية المناطق، ثم سلموهن لداعش وماعش ليجهزوا عليهن في عمل أقل ما يوصف به أنه جنون! والجنون فنون.

واستمر الجنون. وما أفواج النساء والشباب والأطفال الذين جرفهم الموج إلى حتوفهم مسرعين سوى لقطة من مشهد كبير.. كبير يا صغيرتي.

وأنا صامت. لأنني قررت أن أعض على شفتيّ، وأعمل بصمت.

ليس عن الموصل فحسب؛ فقد سبقتها ربوع السنة جميعاً.. وليس في العراق وحده، بل سوريا ولبنان واليمن والبحرين والكويت، ومن قبلها جميعاً رَبع لأهلنا يسمى (الأحواز). هل تعرفونه؟

**

لمن كتبت تلك الحروف؟

لا أدري!

لعله لجيل قادم..

جيل التمكين الموعود، بعد جيل التيه الموجود.

2019/3/23

 

اظهر المزيد

‫6 تعليقات

  1. حقا انه واقع مؤلم واحداث جسام واهل السنه في كل مكان يدفعون الثمن ليست الموصل فقط الله المستعان ولعل القادم افضل في ظل مشروع ينقذ اهل السنه من هذا الذل والهوان وخير مثال مشروع الدكتور طه

  2. بإذن الله يتمكن مشروعنا السني العظيم ويشفي كل جراح أهل السنة وينقذهم من هذا الضياع والتيه
    حفظك الله شيخنا المجدد الراشد 🌴

  3. الأقدار موجودة في كل مكان و الأسباب موجود ة للحلول المتعثرة بأهل السنة فأن الله قد قدر لنا رجل في هذا الزمان كتب لنا مشروع عظيم الى أهل السنة من أخذ به نجى ومن حادا عنه هلك مشروع رباني سني بارك فيك شيخنا الفاضل

  4. لا يفهمها إلا أصحاب المشروع، ومن عاش مرحلة التكوين بتفاصيلها طيلة سنين
    ومنك نستمد العزم ومواصلة الطريق، حتى نشرع بالتمكين أو أن يتوفانا الله تعالى ونحن على الطريق سائرون ثابتون.
    نسأل الله تعالى لنا ولكم الثبات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى